السبت، 15 أكتوبر 2016

حقائق ومعلومات شيّقة عن رواية جورج أورويل المثيرة للجدل.. 1984


تسعة عشر وأربعة وثمانون من الروايات الرائعة التي نالت إعجاب معظم الناس، ولا يزال الحديث عنها مستمر إلى الآن. هنا لن أقوم بتحليل الرواية أو الحديث عن بعض النقاط، بل سأتكلم عن بعض المعلومات الشيقة التي من الممكن أن تهمك..

الكاتب

الاسم الحقيقي لجورج أورويل هو أريك بلير وهو صحفي وروائي بريطاني كتب في النقد الأدبي والشعر والصحافة أشتهر بعدة أعمال منها رواية 1984 ومزرعة الحيوان ولد في 25 يونيو عام 1903 في ولاية بيهار الهندية.
بين عامي 1941 و1943 عمل في هيئة الإذاعة البريطانية BBC في عام 1943 عمل كمحرر أدبي في مجلة Tribune، وكتب الكثير من المقالات عن السياسة والأدب والثقافة واللغة. توفي في 29 يناير عام 1980 بسبب مرض السل وهو في السادسة والأربعين من عمره.
لو كنت تشعر باشمئزاز من مذاق الطعام الرديء والجوارب الملتصقة والثياب القذرة، فلا بد أنك تملك فكرة عما هو جيد… لا بد أنك تذكر وقتاً ما كانت الأمور مختلفة
4 روايات “غربية” يجب عليك قراءتها!

العنوان الأصلي

رواية جورج أورويل الكلاسيكية تسعة عشر وأربعة وثمانون نشرت في هذا اليوم 8 يونيو عام 1949. لكن هذا لم يكن العنوان الأصلي للرواية وفقاً لمقدمة طبعة Penguin Classics، أورويل خطط في بداية الأمر وضع الرواية في عام 1980. من ثم أصبح 1982، وأخيراً 1984.

كانت عملية شاقة بالنسبة لأورويل

كانت كتابة الرواية عملية شاقة بالنسبة لأورويل. الكتاب ليس بهذا الحجم الكبير، وهو أقصر من كتبه القديمة، لكن أخذ الكثير من الوقت لإتمامه على أكمل وجه. بدأ أولاً بالكتابة في عام 1946، لكنه انشغل قليلاً في كتابة المراجعات والمراجعات في الصحف.
من ثم أراد الانتهاء منها في صيف عام 1947، لكن لم يحالفه الحظ أيضاً بسبب تقدم مرضه بالسل، من ثم أمضى معظم عام 1948 في كتابة المخطوطة النهائية، واحياناً كان يجبر نفسه على الكتابة أثناء وجوده في السرير.
كُتـّاب مشاهيــر ستتفاجأ بمعـــرفة أسمــاءهم الحقيقيــة !

الغرفة 101

أورويل قام بتسمية الغرفة 101 بسبب قاعة المؤتمرات في دار الإذاعة بي بي سي. في هذه الغرفة، خلال الحرب العالمية الثانية كان يجلس خلال الاجتماعات المملة عندما كان يعمل لحساب وزارة الإعلام، والوزارة كانت كمصدر إلهام لوزارة الحقيقة التي تحدث عنها في الرواية..
ومن المعلوم أن بطل الرواية ونستون سميث كان في الغرفة 101. لكن بطبيعة الحال استخدمت كمصطلح يعبر عن شيء أوسع مثل أسوء المخاوف أو أسوء كابوس أو أسوء مكان في العام. وعلى الرغم من أن الرواية أيضاً انتشر فيها مصطلحات أصبحت شعبية مثل thought crime وthought police إلا أن هذه المصطلحات لم تنشأ في رواية أورويل وسبقت ذلك حوالي 15 عام وظهرت أول مرة في كتب تتحدث عن اليابان.

كان ألدوس هكسلي معلم أورويل في مدرسة إيتون

إن المؤلف المستقبلي وصاحب واحدة من الروايات العظيمة في القرن العشرين عالم جديد شجاع -التي تحدثت عن التطورات التكنولوجيا الإنجابية والتعليم أثناء النوم والتلاعب النفسي-  كان معلم اللغة الفرنسية لأريك بلير (الاسم الحقيقي لأورويل) في إيتون، وكان هكسلي أكبر من أريك في تسع سنوات فقط.
ولد ألدوس هكسلي في 26 يوليو عام 1894 وهو كاتب إنجليزي كتب العديد من الروايات والقصص القصيرة وسيناريوهات الأفلام، وأثر بشكل واضح على جورج أورويل. من أعماله الأخرى أبواب الإدراك، الكروم الأصفر، الجزيرة.
الأفلام التي اقتبست من الرواية: brave new world عام 1980 إخراج بيرت برينكرهوف… وفيلم أخر يحمل نفس الاسم في عام 1998 من إخراج ليزلي ليبمان واري ويليامز.
أفضل 7 كتب خيال علمي غيرت حياة البشر

رواية 1985

في عام 1978 كتب الكاتب والملحن الأنجليزي أنتوني بيرجس رواية تدعى 1985 بمثابة تحية لرواية أورويل وهو مؤلف كلاسيكي ديستوبي أخر من أشهر أعماله البرتقالة الآلية في عام 1962 A Clockwork Orange))، وتم عملها كفيلم في عام 1971. من أعماله الأخرى رباعية إندرباي والقوى الدنيوية.
جيورجي دالوس كتب أيضاً رواية تدعى 1985 كان المقصود منها أن تكون تكملة مباشرة لعمل أورويل.

أوبرا 1984

في 3 مايو عام 2005 عرض لأول مرة أوبرا 1984 في دار الأوبرة الملكية وهي من تأليف لورين مازيل و إخراج روبرت ليباج، نص الأوبرا الكلامي من قبل توم ميهان.

كتب شهيرة تم حظرها عالمياً لأنها تناقش “موضوعات حسّاسة”!


يوجد الكثير من الكتب تم حظرها في العديد من البلدان لعدة أسباب، بسبب وجود كلمات نابية أو مواضيع حساسة أو وجود محتوى إباحي صريح أو ربما مواضيع دينية وسياسية..
بعض من تلك الكتب مشهورة جداً وحظرت في بعض المناطق لفترة وجيزة من الزمن مثل قصص ألف ليلة وليلة وشيفرة دافنشي لدان براون ومزرعة الحيوان لجورج اورويل. في هذه القائمة سنستعرض بعضاً من أشهر الكتب التي كانت محظورة في بعض المناطق في العالم.

عوليس – جيمس جويس

عوليس – جيمس جويس
نشرت رواية عوليس للمرة الأولى على شكل حلقات في جريدة ذا ليتل ريفيو الأمريكية في عام 1981، ونشر الكتاب في باريس عام 1922. رفضت الولايات المتحدة التعامل مع هذا الكتاب على أساس الفحش وأحرق العمل في الولايات المتحدة وكندا وإنجلترا وإيرلندا. لكنه في نهاية المطاف نشر عام 1933 في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في عام 1936.

ألف ليلة وليلة

قصص ألف ليلة وليلة حظرت في الدول العربية وكان آخر حظر في مصر عام 1989، حيث أعلن أنها تشكل خطراً على النسيج الأخلاقي للأمة. كما واجهت هذه القصص بعض المشاكل في الولايات المتحدة في العشرينات بسبب قانون كومستوك عام 1873 الذي يحظر توزيع منشورات تعتبر بذيئة.

مدار السرطان – هنري ميلر

نشر مدار السرطان لأول مرة في باريس عام 1934 وكان محظوراً في كل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بسبب طبيعته الجنسية الصريحة. رفع الحظر عنها في نهاية المطاف عام 1961. 
حقائق ومعلومات شيّقة عن رواية جورج أورويل المثيرة للجدل.. 1984

مدام بوفاري – جوستاف  فلوبير

مدام بوفاري – جوستاف فلوبير
نشر كتاب مدام بوفاري في عام 1857، فلوبير أخذت للمحاكم في باريس للإساءة بالأخلاق العامة وظل الكتاب مثيراً للجدل لفترة طويلة، وفي عام 1864 تم وضعه على مؤشر Librorum Prohibitorum للكتب المحظورة من قبل الفاتيكان. سجن الناشر Vizitelly في عام 1889 بتهمة نشر التشهير الفاحش، وفي أواخر 1954 كان على القائمة السوداء في الولايات المتحدة من قبل المنظمة الوطنية للأدب اللائق.

آيات شيطانية – سليمان رشدي

حظرت آيات شيطانية في باكستان والدول العربية وبنغلادش وماليزيا وإندونيسيا وجنوب إفريقيا لسب وإهانة الإسلام.

الظلام جون – مكغاهيرن

وهي من ثاني أعماله تتعلق بإساءة معاملة الأطفال الدينية، منعت من قبل المجلس الأيرلندي للرقابة بسبب محتواه الإباحي المزعوم والاعتداء الجنسي، وقيل له أن يستقيل من وظيفته كمدرس وعندما تحدى التعليمات طرد بناء على تعليمات من رئيس أساقفة دبلن.

قلب الظلام – جوزيف كونراد

قلب الظلام – جوزيف كونراد
هذه الرواية كانت محظورة في بولندا وألمانيا والاتحاد السوفيتي لأسباب الرقابة السياسية، وتم حظرها في الآونة الأخيرة في أجزاء من الولايات المتحدة لاستخدامه لكلمة زنجي.

الأشياء تتداعى – تشينوا اتشيبي

حظر عمل تشينوا اتشيبي في نيجيريا الغربية في عام 1988 لأن المؤلف اقترح أن السياسي المخضرم اوبافيني اوولوز لا يستحق جنازة رسمية. وعلى الرغم من ذلك ترجمت الرواية إلى أكثر من 50 لغة وبيع منها 10 مليون نسخة في جميع أنحاء العالم. في الآونة الأخيرة تم حظرها في ماليزيا.

الحارس في حقل الشوفان – جيروم ديفيد سالينغر

حظرت الرواية في الولايات المتحدة وأستراليا، وفي عام 1960 طرد مدرس في تولسا أوكلاهوما لوضع الكتاب على قائمة القراءة لطلاب الصف الحادي عشر، وأزيل الكتاب نهائياً من البرنامج التعليمي، وهجمت المدرسة الثانوية للسماح بالكتاب في مكتبة المدرسة لأن بطل الرواية يعبر عن التمرد في سن المراهقة.

شيفرة دافنشي – دان براون

شيفرة دافنشي – دان براون
رواية شيفرة دافنشي التي بيع منها أكثر من 80 مليون نسخة وترجمت إلى 44 لغة حظرت بعض الوقت في اللبنان والأردن ومصر وإيران وباكستان على أساس أن هذا الكتاب هجوم على المسيحية.

أليس في بلاد العجائب – لويس كارول

حظرت كلاسيكية اليس في بلاد العجائب التي نشرت في عام 1865 من قبل حاكم مقاطعة هونان في الصين على أساس أن الحيوانات لا يجب أن تستخدم لغة الأنسان وأنه أمر كارثي وضع الحيوانات والبشر على نفس المستوى.

أعلنوا مولده فوق الجبل – جيمس بالدوين

تعتبر الرواية شبه سيرة ذاتية اندرجت في عام 2005 في قائمة أفضل 100 رواية في مجلة تايم، ومع ذلك كثيراً ما يندد بها في الولايات المتحدة على أنها فحش اجتماعي. في عام 1988 منعت لكونها تعج بالألفاظ النابية والجنسية الصريحة. وفي عام 1994 في نيويورك بسبب المواضيع المتكررة من الاغتصاب والاستنماء والعنف والمعاملة المهينة للمرأة.

فرانكشتاين – ماري  شيلي

فرانكشتاين – ماري شيلي
نشرت لأول مرة في عام 1818. تعتبر بشكل عام من الأعمال البارزة في الأدب الرومنسي والقوطي وأول كتاب خيال علمي بالشكل الكامل، تم حظره في جنوب أفريقيا عام 1955 لكونه غير لائق وبذيء.

كوخ العم توم – هارييت بيتشر ستو

نشرت الرواية في عام 1852 وحظرت في الولايات الجنوبية في أمريكا لأنها مناهضة للعبودية وبسبب التصوير السلبي لمالكي العبيد، ثم حظرت في عام 1984 في ولاية إلينوي لاستخدام كلمة زنجي. وحظرت في روسيا في عام 1852 وإيطاليا وجميع الدول البابوية في عام 1855.

صائد الجواسيس – بيتر رايت

بعد أن خدم رايت 20 عاماً في MI5 انتقل إلى أستراليا وكتب كتابه صائد الجواسيس الذي نشر عام 1987. يحوي على جزء من مذكراته، وجزء فضح ما اعتبره إخفاقات مؤسسية لأجهزة الأمن البريطانية. يعتبر دولياً من أفضل الكتب، حظرته بريطانيا وخاصت معركة قانونية طويلة لمنع نشره.
كتب يجب أن تقرأها لتفهم “كيـف يدور عالم السياسة”

أزهار الشر – شارل بودلير

أزهار الشر – شارل بودلير
مجموعة شعرية نشرت لأول مرة في عام 1857، وحكم على المؤلف والناشر بتهمة الإساءة إلى الآداب العامة. ست قصائد اعتبرت أنها متطرفة جداً ليتم نشرها، ولم يرفع الحظر عنها في فرنسا حتى عام 1949.

أمير الذباب – ويليام غولدنغ

لا يزال هذا الكتاب استفزازياً للبعض حتى الآن مثلما كان الحال عندما نشر لأول مرة في عام 1954، وأثار نقاشاً حامياً لصورته الوحشية للطبيعة البشرية. حظر هذا الكتاب من قبل مجلس كلية تورينتو في جميع المدارس.

نداء البرية – جاك لندن

خضعت أعمال لندن للرقابة في العديد من الدول الأوروبية خلال العشرينات والثلاثينات، وفي عام 1929 حظرت جميع كتبه في يوغوسلافيا وحظرت في إيطاليا جميع الطبعات من نداء البرية.

عشيق الليدي تشارلي – ديفيد هربرت لورانس

طبع أول مرة في عام 1982 واعتبر أنه كتاب بذيء، حيث تم حظره في المملكة المتحدة وإيرلندا وأستراليا والولايات المتحدة وكندا واليابان والصين.

الاثنين، 14 أبريل 2014

طلب صداقة - محمد عجلان

طلب صداقة - محمد عجلان


غائص فى نفسي كالعادة، أحاول لململة بقايا رجل يتظاهر بالصمود كي لا يسقط، تتزاحم على رأسه صور الماضي، ويغص قلبه بآلام الحاضر وتخوفات المستقبل، يقتل الوقت الميت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي كي ينسى ما لايُنسى، ويتجاهل ما يحاصره ليل نهار، يخرج من السياسة إلى الأدب إلى الخرافة إلى السطحية، يرقب من وراء ستارته السميكة ما يدور، يشارك حينا ويحجم أحيانا أخرى. لكن لا الوقت يموت ولا حتى يتحرك، بل يتحول فى كثير من الأحيان إلى أشباح تبشر بآلام جديدة تنضم إلى جوقة الآلام القائمة.

أخرجني من أفكاري إشعار أن ثمة طالب صداقة جديد يطرق عالمي، ولمحت على ملامح الإشعار شيئا من سخرية، كأن لسان حاله يقول: يبدو أن الناس مخدوعة فيك، من هذا الذي يطرق باب الكآبة بمحض إرادته، أصابني الغيظ من تلميحات الإشعار، لكن نفضت غضبي وتحركت للتعرف على الزائر الجديد، فقد وقف ببابي أكثر من اللازم، دلفت من باب الصفحة فى ترقب، وكأني لص يخشى إيقاظ سكان البيت، أول ما صادفني على أبواب الصفحة لوحة مسكونة بالسحر والغموض وُضعت كصورة شخصية. تأملتها قليلا وأنا مأخوذ من وقعها على نفسي، أحسست كأني طرقت باب حلم أسطوري، ألمح بين الحروف واللوحات آلهة صغيرة تتجول فى براءة، ما أن أخرج من لوحة بالألوان حتى تفاجئني لوحة شكلتها الحروف، تعجبت كيف الانتقال بين حقلين بهذه الروعة، رغم أن كل واحد منهما فى حاجة إلى جهد وطاقة إبداع استثنائية، كنت ألمح طيفها خلف ظهري بينما أنا أسير مندهشا عبر صفحتها، باسمة لهذا الزائر الجديد الذي يتلفت يمنة ويسرة كطفل يسرق الحلوى دون علم أمه، استشعرت يدها تربت على كتفي كأنها تقول لي" "لا تعجب فكل ما ترى نزف روح".

بينما أنا فى عزلتي الطوعية عن العالم بين عالمها، فوجئت برسالة منها، كانت تشكرني على قبول الصداقة، ضحكت بيني وبين نفسي، من منا أحق بشكر الآخر! تأخرتُ قليلا فى الرد عليها، كنت أحاول الاتصال بلغتي كي تسعفني، لكن يبدو أن اللغة كانت مشغولة فى اتصال آخر، رغم بساطة ما أرسلتَه فهو لا يتعدى شكرا أستقبله أو أرسله كل يوم ربما عدة مرات، لكن حاصرني شعور أنه لا يمكن أن أرد عليها كالآخرين، فكل شيء يؤكد أنها ليست مثلهم، ولا يليق أن أهديها لغة مستعملة، رأيتها تستحق لغة طازجة.

استجمعت نفسي، كانت اللغة بدأت تعود بعض الشيء، شكرتها على منحي فرصة المرور عبر عالمها السحري، كانت كريمة جدا حين شكرتني ثانية على ردي، لكن الغريب أن الكلمات حين عرفت أني أحادثها استسلمت فى وداعة طفل، خلتها تبتسم ثانية لحروفي الصغيرة، تمد يدها داخل نفسي فتنتقي ما يليق بها، كأنها رأت حيرتي وارتباكي من روعة المفاجأة، فأخذت تقوم بدورها فى جذب الكلمات بما يريحني.

لم أعرفها، فقط وجدتني أتواصل بأنفاس متسارعة وعينين شاخصتين نحو الشاشة، كأني أود أن أمسك بها خشية الاختفاء، تركتها ولغتي يدخلان فى حالة من العزف الثنائي، لكنها كانت سيدة الموقف وكلماتي مجرد تابع مطيع. طرأت أسئلة كثيرة على رأسي، هل ثمة أناس، بشر، خلْق، لهم هذا الوقع على النفس ؟! انتابني شعور بالخوف المفاجئ، فقد عاودتني أوهامي القديمة، كأنها بسحرها قد أزاحت الغطاء عن بئر من خرافات الماضي، هل هي كائن من كوكب آخر مر خطأً عبر صفحتي، هل يحاول هذا الكائن التعرف على الكوكب من خلالي ؟ حتى فكرة عروسة النيل التي زرعتها أمي فى نفسي كشجرة توت أخذت تطل برأسها، لكني حاولت طرد هذه الأفكار الغريبة؛ لأن عقلي أخذته العزة بالحقيقة ورفض استسلامي لتلك الأوهام.

أفقت فجأة حين وصلني ردها على شيء أرسلته، لم تسألني عن شيء وعرفت كل شيء، وأنا كذلك لم أتطرق إلى من هي، لكن كنت كمن يتجول عبر شواطئ روحها فى نزهة صيفية، لم أعرف اسمها إن كان حقيقيا أو مستعارا، تركت نفسي ولغتي تسير فى استكانة نحو ما تريده هي، كنت متعبا جدا وبي رغبة فى السير نائما دون تفكير فى الوجهة، وكانت هي تجيد الطبطبة على ظهر روحي فى روعة حلم، عجبت أني أتحدث معها بكل هذه المتعة دون أن أتحدث فى شيء، شقشقت العصافير فعرفت أني فى هذا الحلم منذ ساعات، فجأة جاءني ردها: صباحك فرح ممتد .. مع السلامة !
الواحدة بعد منتصف الليل - محمد  عجلان

الواحدة بعد منتصف الليل - محمد عجلان

الواحدة بعد منتصف الليل يرن جرس هاتفها كل ليلة، حديث العشق المسائى، كانا قد ضبطا توقيت هاتفيهما معا، فما أن تدق الواحدة حتى تضغط على زر فتح الاتصال، حتى لو لم تصلها رنة الهاتف، موقنة أنه موجود على الخط فعلا، كل مرة تداعب مسامعها كلماته المدغدغة للمشاعر، نفس الصوت كل ليلة، لا ملل إطلاقا، كأنها تسمعه للمرة الأولى، كأن صوته عذراء تتجدد بكارتها على الدوام.

كانت تستنشق صوته، تسمع عينيه، كانت تتعجب حين تفكر أن لصوته رائحة تفوح من الهاتف، لم تبح لأحد بفوضى الحواس التى تسببها لها كلماته، فما كان لأحد أن يرى أو يسمع ما تعايشه مع هذا الصوت، كان صوته حضورا تاما. لم تره سوى مرة واحدة فى طريق عودتها من المدرسة، ما أن وقعت عيناها عليه حتى توقفت الحواس عن العمل، كان تأثيره عليها كتيار كهربائى فوق مستوى تحمل المصباح، قالها كلمة واحدة: (ازيك).

لم تنبس ببنت شفة، لكن العين تكلمت والأنفاس المتسارعة كانت رسول قلبها إليه، دس فى جيبها قصاصة ورق ثم اختفى فجأة، تسارعت دقات قلبها، أحست أن قلبها سيتوقف، لم تجرؤ على فتح قصاصة الورق فى الطريق، استشعرت أن الطبيعة من حولها صارت عينا كبرى ترقب ما تفعله، الأشجار، العصافير، أسطح المنازل، نوافذها، عربات الكارو، كل العالم تحول بنظرها إلى أعين ترصد كل سكناتها وهمساتها، الجميع لديه شوق لمعرفة ما بداخل القصاصة، تلفتت يمنة ويسرة، ثم تحركت فى خطوات متعثرة قاصدة بيتها، أو بالأحرى غرفة نومها، لم تلتفت كعادتها لما يدور حولها فى الطريق، بل الغريب أنها وصلت البيت رغم أنها كانت مغيبة بوقعه عليها عن العالم من حولها. يبدو أنها الغريزة قد قامت بدورها حين غاب العقل مع صاحبنا، كانت أشبه بمن سرق أحلاما نساها القمر وهو فى طريق عودته وتخشى وشاية النجوم.

طاردتها أفكارها القديمة وهى شاخصة ببصرها من نافذة حجرتها على الشارع، قبل أن تراه ظنت قلبها أرضا بورا عافتها البذور، وها هو قلبها صار أسيره فى طرفة عين، استغربت كيف استسلم للعبودية الجديدة بهذى السرعة، هل الحرية لا قيمة لها حين يكون الأسْر بهذا الخيط الرقيق من كلمات المعشوق، هل نداءات الحرية هى دعاوى من ضلوا طريق القلب، هل حسابات القلب فوق مستوى الجبر والاختيار، هل تتحطم على صخرته ما يحار العقل فى اكتشاف كنهه؟ .. هل تنحل عقدة الأسئلة الكبرى على أبواب القلب حين يعزف على أوتاره هذا القادم من حيث لا تدرى؟

داعبتها عصفورة تحوم حول النافذة، ولأول مرة تستشعر أن الطيران ليس هبة الطيور فقط، ها هى تحلق أبعد مما تتخيل العصافير ذاتها. لم تكن أحاديثه تعجبها لسبب معين، مجرد أن يصدر الكلام عنه فيتحول إلى سحر يخرجها عن ثيابها البشرى لتحلق فى عالم ملائكى آخاذ، لم تكن تستمع لحديثه وأفكاره وما يطرحه دوما من كلمات جميلة حينا وأفكار عميقة عن القدر أحيانا أخرى، لم تشغل بالها يوما بما يقول، تكتفى دوما بأن يقول وحسبها منه هذا، حالة ذوبان صوفى مع صوت لم ترى صاحبه سوى مرة واحدة، لم تسأل نفسها يوما ما (وماذا بعد؟) .. ما تعيشه الآن هو القبل والبعد، لا تريد أن تخرج من نشوتها بأسئلة ربما تزعجها بخوف من مستقبل ربما لا يكون على ما يرام.

حين كانت تنتهى مكالمته وتسترجع رائحة صوته مرارا وتكرارا بينها وبين نفسها، كان يلفت نظرها دوما أنه قدرىٌ يحب، يعشق، يسرح بخياله إلى آفاق لم تطأها قدم قبله، لكنه مطوق بقيد اسمه القدر، ما كان لها أن تفهم من تسكنه كل هذه الطاقة من الحب والرغبة فى الحياة كيف يسلم نفسه هكذا لدوامة القدر التى تقتل على مذبحها بريق الغد المنتظر؟

أخبرها ذات مساء أنه حين رآها للمرة الأولى أحس أنها روحه التى حارت طويلا بعيدا عن جسده ثم اهتدت أخيرا إليه، عرفها قبل أن يسمع صوتها للمرة الأولى، عرف وقعه عليها قبل أن تراه، حتى مواعيد الواحدة بعد منتصف الليل سكنته وهو يضع القصاصة فى جيبها، حاول أن يطرد طيفها ما يزيد عن العام، كان يهدف التأكد أنها (هى) بعد فشل كل محاولات قتلها بخنجر عقله، كان اللقاء الأول فى طريق عودتها من المدرسة.

فاجأها حين أخبرها أنه منذ لقائهما اليتيم أنه يراها دائما، حكى لها ما حدث لها بعد أن تركها فى الطريق، كأنه كان يسير بجوارها، بل الأغرب أنه وصف ما دار بداخلها دون أن يُسقط شيئا، منذ اللحظة الأولى كأن بثا حيا خاصا بها يظهر على صفحة قلبه، سألته هل يحدث هذا مع الجميع .. هل كان دوما هكذا حتى قبل أن يلقاها؟ والمدهش فى الأمر أنه لم يكن قبل معرفته بها هكذا، ولا يحدث هذا إلا معها، حالة كشف صوفى انتابته بعد رياضة قلبية مارسها طيلة عام. إلا أن من جملة غرائبه التى أذهلتها، أخبرها أن انعكاس صورتها عل صفحة قلبه لم تأخذ نفس الوضع طوال الوقت، فى البداية كان يراها وجها لوجه، بعد ذلك أحس كأنه يرتفع قليلا عن الأرض، ثم استمر هذا الوضع حتى أصبح يراها من فوق !! .. كأنه فراشة تحوم حول رأسها، ثم صارت المسافة أبعد دون أن يخل ذلك بوضوح الرؤية، وها هو الآن يراها من مسافة يصعب قياسها، إلا أنه يراها بشكل أكثر ثباتا.

باغتها حين طلب منها أن تفتح عينيها ولو لمرة واحدة حين يكلمها، التفتت حولها مذهولة، ظنته يجالسها نفس الأريكة التى تتمدد عليها، لا يمكنه حتى لو كان بجوارها على الأريكة أن يرى عينيها المغمضتين، لابد أن يكون فى مواجهة وجهها، الذى كان محاصرا بين وسادتين إمعانا فى عزلتها، حينها أحست أنها تهاتف طيفا، سألت نفسها هل رأيْتُه حقا هذا اليوم؟ .. قلَبَ قواعد المنطق وأتاه منها الجغرافيا، إلا أنها رغم كل ما عرفته عن غرائب هذا الصوفى العاشق فى صومعتها، لم يكن يشغلها شئ عنه حتى ما يخبرها به.

دقت الواحدة، ضغطت على زر فتح الاتصال، لم يأتها الصوت، إلا أنها استمرت على الخط بنفس انفعالاتها، استمرت كأنه على الطرف الآخر، نفس الذوبان الذى استمر لأكثر من ثلاث سنوات. طال غيابه، وهى على نفس المنوال لا تغلق الهاتف إلا بعد انتهاء المدة التى كانت تحادثه فيها، لم تفتقده فهو حاضر دوما، كأنها اختزنته لسنوات الصمت، عامان لم يأت الصوت، ولم تغب رائحته.
أرانى فى وجه أمي - محمد عجلان

أرانى فى وجه أمي - محمد عجلان

1-

فى ليلة من ليالى الشتاء التى يخافها الفقراء، ففيها يجتمع عليهم صوت المعدة المنفلت من عقاله دون أن يجدوا ما يدفعون به ضريبة بطشه فيتضورون جوعا، وسهام الصقيع التى تتسلل خلال ثيابهم البالية وأغطيتهم الرقيقة بفعل السنوات، جلسنا حول لمبة الجاز التى كانت مصدر النور فى ليالى الشتاء الطويلة المخاصمة للكهرباء. وعلى مسافة منها وقرب الباب قطع من الخشب المشتعل لتدفئة المكان، والذى كاد يقتلنا مرارا، لا بسبب اشتعاله فى أحد مدخراتنا البسيطة، لكن لحرقه هواء الغرفة التى تفنن أبى فى تحبيشها بالخرق القديمة حتى لا يداهمنا برد لا نقدر على رده، جلستُ فى ركن قصى من الحجرة منشغلا برواية أقلب صفحاتها فى غيبة عما يدور حولى، بينما كان أبى وإخوتى يتسامرون بأحاديث المساء المكررة، فكانت حكايات أبى للصغار هى دار السينما وقاعة المسرح الليلى التى يحلو لهم أن يتابعوها بكل شوق، رغم أن معظم حكاياته مكررة، يعيدها ويزيدها بنفس الانفعالات واللازمات، ولم يكن هذا غريبا حيث أن حياته البسيطة لم تتح له أن يدخر أكثر من هذا، لكن الغريب كان فى رد فعل الأطفال الصغار تجاه ما يقول، فالاستمتاع هو نفسه كل مرة، كأنها لم تخترق آذانهم وتسكن عقولهم مئات المرات بنفس الطريقة!

 الوحيدة الساهمة عن كل هؤلاء، الشاخصة نحوى بعينين مكدودتين من عناء أيام طوال لم تعرف فيها طعم الراحة ولم تنل نصيبا من المتعة، كانت أمى تحلم معى دون أن تعرف فيما أحلم، تشاركنى آلامى لا عن علم بحقيقة ما أعانيه، لكن يبدو أنها جِبلة الألم التى شكلتها بطابعها من ناحية، وغريزة الأمومة التى خلقت نوعا من التواصل الخفى بين قلبينا من ناحية أخرى. كانت انطباعات ما أقرأ تنعكس على صفحة وجهى فى ظل ضوء المصباح الهزيل، وكأن وجهها مرآة وجهى فإذا بابتسامى وتقطيبى واندهاشى على وجه أمى، تاهت عن أبى وصغاره وحكاياته مع شاب فى بداية العشريينات يرسم بخياله مستقبلا أفضل يُكذِّب الواقع إمكانات تحقيقه، لكنها كانت تصدق حتى كذبى، لم تكن قادرة أن تتحمل عدم تصديقى، كانت ترى فيَّ شيئا من الأنبياء والزعماء، لا عن موهبة أو حضور خارق فى محيطى الاجتماعى، لكن عن قلب أم داستها أقدام الأيام الفقيرة، فتشبثت بأول مولود لها أظهر بعض التقدم فى دراسته، لم تكن أحلامها أن تعيش حياة أفضل مما عاشته وتعيشه، لكنه أمل فى هذا الأفضل الذى كثيرا ما تحدث به هذا الابن الحالم.

سمعت منه أسماء فولتير وديكنز ونجيب محفوظ وطه حسين والعقاد ونيتشه وهيسه، كانت لا تميز أسماء البشر الغرباء من أسماء الأماكن التى لا تعرفها، فنيتشه وباريس هما شيئان ربما اخترقا أذنيها خلال حديث لا تفقهه مع ابنها، كانت تحب نيتشه لأنه يحبه، وتكره آباء الكنيسة فى العصور الوسطى لأنه يكرههم من ناحية ويشبهون إقطاعى قريتها الذين أذاقوها ألوان الذل والمهانة سنوات عديدة، كانت تخرج عن صمتها أحيانا حين يحدثها عن البؤساء، وتستغرب أن بلاد الخواجات بها أناس يعانون كما نعانى، هل هذا الخواجة الذى يتحكم فى مصير قريتنا، وغيره من الخواجات يعانون ويألمون كما تعانى وتألم؟ كانت تقبل هذه الحقيقة على مضض، وربما أرشدتنى إلى أن أعيد النظر، لعل هذا (الجدع) ،تقصد الكاتب، قد قصد مكانا آخر أقرب لقريتنا من بلاد (بره). لم أكن أحاول إقناعها بكل شئ لأن هذا كان فوق طاقتها، كنت أستمتع حين أرى مشاعرى منعكسة على صفحة وجهها الذى قتل أنوثته الفقر ومثّل به العوز، كان يأخذنى الغرور أحيانا بأن هذا ليس قلب الأم كما يقولون، لكن أعتبره قوة أمتلكها وأستطيع من خلالها أن أؤثر فيمن مثل أمى من البسطاء، لكن الواقع كان يكذّب هذا، فما كان تأثيرى على أحد يضاهى تأثيرى عليها، مما يؤكد أن هذا ليس قوة إرسال بقدر ما هى روعة فى الاستقبال.

كان يحلو لها أحيانا أن تخرج عن صمتها، لكنها لا تخرج عن دائرتى أيضا، كان حديثها دوما معلقا بسنوات طفولتى، كيف كنت أقضى نهارى داخل (الكانون) أحفر وكأنى أبحث عن شئ، كانت تترحم على أيام هدوئى حين كنت لا أعصى لها أمرا ولا أسبب لها قلقا؛ لأنى لم أبارح المكان التى ترصدنى فيه عن قرب، وكأنها كانت تتمنى أن أبقى على عهدى بالمكان والكانون إلى أجل غير مسمى. كانت تحزن كثيرا عندما يأتى المساء لأنى كنت أخافه، فإخوتى الكبار كانوا يتفنون فى تخويفى مخرجين مكنونهم الشيطانى ضدى، وكانت أبرز منغصات مسائى هو تخويفى بـ "البعبع"، وما كان هذا البعبع سوى انعكاس ظل أياديهم ووجوهم على حائط الغرفة فى ظلام الليل المنتهك بضوء المصباح الباهت، كان أمرا مرعبا بالنسبة لى، فما كانت أمى تملك سوى أن تنتهرهم وتحتضننى محاولة ،دون جدوى، إقناعى أنه لا شئ يدعو للخوف. كانت تذكر هذه الروايات باسمة، كأنها تخاطبنى بعينيها: ها أنت صرت رجلا لا تهاب البعبع الآن، صرت أمانى وعزوتى بعد أن كنت تبحث بين أحضانى عن الأمان. ما لم تكن تعلمه أمى حين تبعث برسالات قلبها عبر عينيها، أنى دوما أشعر فى حضنها بالأمان، وأنى لست هذا الهرقل الذى لا يأتيه الخوف من بين يديه ولا من خلفه، لكنى كنت أخشى أن أصدمها بحقيقة الأمر، تركتها تنسج بكل ما أوتيت من ضعف صورة البطل فى رأسها.

2- 

أخرجها من استغراقها فى دائرة ابنها مهرجان النوم الجماعى الذى بدأه الصغار، بعد فراغ الأب من صب حكاياته فى نفوسهم ربما حتى دون المرور بعقولهم، فها هو طفل قد استلقى على ظهره بعد جرعة استمتاعه بأحاديث الأب البارع فى الحكى، وأخرى قد ارتمت على وجهها فجأة حين داعبت حكايات الأب نفسها ودغدغت حرارة الغرفة رأسها معلنة انتصارها على برد شتائهم القاسى. فى مشهد يومى فى مثل هذا التوقيت تبدأ أمى فى عملية (رص) الصغار على الأرض بجوار بعضهم البعض، وبينما تكون مشغولة بالنيام لا يخلو الجو من طفل آخر مازال متمسكا بإعادة القصة من جديد، متجاهلا معاناة أبيه المنهك من عذاب يوم قاس، فتأخذه الأم باللين حينا وتحيل أوراقه إلى الأب لاستخدام الشدة أحيانا، فهى لا تريد الشدة ولا تطاوعها نفسها عليها. بعد أن تنتهى من عملية تجمعيهم بجوار بعضهم على أرض الحجرة، فى صورة إن دلت على الفقر المدقع حيث لا أسِرّة خاصة ولا عامة، إلا أنها تشى بأن للفقر أيضا روعته، فهذا المشهد يخلق دفئا ماديا ومعنويا، تجد أيادى متداخلة وأنفاسا متمازجة تخلق حالة من التوحد حول دفء واحد أو برد واحد، تقوم أمى بعد ذلك بإحضار أغطية تبدو فى شكلها العام أشبه بأزياء (البلياتشو) فقد تفننت فى تجميع أجزاء متفرقة مختلفة الألوان والخامات من بقايا الأثواب البالية أو من قصاصات قد زادت عن حاجة (الخياطة)، كل هذا من أجل صناعة (تلبيسة) تمنح غطاءنا بعضا من السُمك الذى فقده بفعل الزمن الذى جعله رقيقا أكثر مما ينبغى. كل هذا وأنا شارد عن الجميع وعين أمى تراقبنى بين حين وآخر وهى تقوم بمهمتها المقدسة كقطة حنونة مع صغارها، بينما يكون أبى قد تخلى عن أداء دور مهرج الأطفال ليصطدم بصخرة الواقع ومخاوفه الدفينة من المستقبل المجهول لهؤلاء الممددين بجانبه على الأرض فى شكل يملأ القلب حزنا – إن لم يكن مسئولا عنهم – ويملأه انكسارا وخوفا إن كان أباهم ومعقد آمالهم الصغيرة، فدائما ما تجول بخاطره فكرة فحواها إذا كان يلقى كل هذا العناء فى مجرد إطعامهم، فكيف به حين تداهمه حاجات المستقبل الكبيرة، فلن تنقذه قراريطه القليلة من فضيحة يفرضها سؤال اللئام، لأن اللئيم الذى يضن عليك بفك كربك، يضطرك مرغما إلى لئيم آخر. كان دعاؤه دوما (سترك يا رب). وبينما هو فى حزنه العميق بواقع ومستقبل هذه الطيور الصغيرة التى كفت عن الشقشقة منذ قليل مسلمين جفونهم للنوم، فإذا بيد خشنة تيبست أطرافها من عناء أيام قاسية تربت على كتفه، ناظرة بحنو أم ونظرة طفل ودودة (ربك كبير)، فتنزل كلماتها دوما على نفسه كماء بارد على فم عطشان أحرقه قيظ شديد، يبادلها نظرات أقرب إلى الاستسلام منها إلى الرضا، يجول بخاطره ضيق أفقها وعدم قدرتها على قراءة الوضع كما يراه، إلا أنها ربما كانت أعمق مما يتخيل بكثير، فقد كان قلبها عامرا بإيمان صوفى يعجز عقله عن سبر أغواره، فما من ضائقة تواجهنا – وما أكثرها – حتى أرى فيها (موسى) مؤنث يؤمن حين تنقطع أسباب النجاة أن له ربا لن يخذله، يبدو أنه نوع من الإيمان شكّلته رياضات المعاناة الراضية بالقسمة والنصيب، فمن يرضى بما نحن فيه، فثق تماما أنه لن تقدر يد الأيام على العبث بيقينه وإيمانه، وهى كانت كذلك دوما. نظرتها للأمور تستحضر فى ذهنى تصورا غريبا، وهو أن الحقيقة ولدت بسيطة وتسير فى شكل دائرى! وستعود بعد رحلتها الطويلة بسيطة ثانية، وما كل هذه التعقيدات التى يصنعها تعلق البشر بالحقيقة سوى جهد بشرى ضائع؛ لأنه يبحث عن الحقيقة بآليات ليست من جنسها، يبدو أن أمى قُذفت بنور هداها بينما نحن نتخبط فى متاهات العقل!

قررتُ الخروج من الغرفة خوفا من إزعاج الصغار الذين يبدو أن الأحلام قد عاجلتهم وبدأت تداعبهم مبكرا، فهذا يبتسم والآخر يشتم زميله الذى أخذ منه حصانه المصنوع من الطين نهارا، أحلام متجاورة تحت غطاء لا يشجع على الحلم حتى ولو بحصان من طين، لكنها رحمة الله وعدالة الأحلام!! وبينما بعضهم غرق فى عالم الأحلام تجد أحدهم قد تكوّم جاذبا ركبتيه لتغطى وجهه فى وضع جنينى يعيده سيرته الرحمية الأولى، لكن رقدته هذه تزعج الآخرين، فهى تُضيّق عليهم من ناحية، وتمنحهم كرمه الحاتمى فى توزيع رفساته ولكماته من ناحية أخرى، مما ينذر ببداية حرب أهلية، فما أن يبدأ هذا الأخ فى طقسه الليلى حتى يستيقظ البعض ويدخلون معه فى شجار كأنه قد رفسهم عن عمد، ومع غياب المنطق عن أذهان الصغار، لا يجد الرافس الأعظم حجة جاهزة للرد، فتشتعل نار كرامته ويرد عن نفسه هجوم القوات المعادية التى داهمته من القبائل المجاورة له فى الفراش، ويا لروعة الطفولة حين ترى أحدهم وهو فى قمة غضبه وصراعه يرتمى بشكل فجائى على الأرض مستغرقا فى النوم من جديد، لكن هذا يشعل غيظ خصمه فيهزه محاولا إيقاظه لاستكمال المعركة، وإن يأس منه يدفعه فى صدره دفعة إخوة خفيفة، ثم يخلد للنوم من جديد، لكن إذا حمى وطيس المعركة ولم يداهم سلطان النوم عين أحدهم، فلابد من تدخل قوى أخرى محايدة لإنهاء المعركة، وربما تكون حمامة السلام التى ظهرت فجأة لوضع حد للصراع الدائر فى الفراش طفلا آخر لم ينل حظه من الرفس واللكم فيحاول حل المشكلة لا عن فضيلة حلّت به، لكن محاولة منه فى نوم هادئ، أما إذا خرجت الأزمة عن إمكانات القوى الطفولية فى الحل، فلابد من اللجوء لقوى كبرى، ففى هذا الوقت يخرج أبى ببطء شديد من حالة استغراقه على تدافع الصغار وتضاربهم، والذى كان رغم تبسطه معهم فى الحكى والمداعبة حاضر الهيبة دوما، وكانت كلمة واحدة منه كفيلة بإنهاء صراع الصغار الموزعين بين النوم واليقظة والأحلام، فيطلقها فى ثقة مخترقة أسماعهم .. "اتخمدوا" .. فلا تسمع بعدها صوتا لأحد، ويرتمى الجميع معلنين الاستسلام، وإن كان بعضهم يحاول أحيانا إكمال معركته فى صمت خوفا من العقاب، والتى لا ينتبه الأب إلى استمرارها كحرب باردة تحت الغطاء، إلا حين يجيئه صوت بكاء أحدهم بشكل مفاجئ بسبب ضربة فى عينه أو عضة فى قدمه، فيعلو صوت الأب منذرا .. متوعدا، فتنتهى الحرب الساخنة والباردة معا ويستسلمون من جديد للنوم والأحلام.

3- 

هممت بالخروج من الغرفة المختنقة بأنفاس الصغار والدخان الساكن فى أرجائها بفعل النيران التى أشعلها أبى فيها، لكن لم يكن الأمر بالسهولة التى يتخيلها البعض، فقد انفرط عقد الصغار وتوزعوا فى أرضية الغرفة فى حرية تامة ضاربين بقيود الغطاء عرض الحائط، وتبدأ مرحلة الفوضى حين يضيق أحدهم بالغطاء فيمنحه رفسة من قدمه، وتكون هذه بداية الانتشار على أرضية الحجرة، فتجد أحدهم وقد صارت قدمه على أعتاب فم الآخر، ورأس أحدهم قد احتضنت أحذية بالية قرب الباب، فى الوقت الذى استقر فيه طفل فى مكانه دون حراك يذكر، غير عابئ بحملة إعادة الانتشار التى تحدث من حوله. فكنت أتخطى رقابا وأتفادى أرجلا فى ظل ظلام الحجرة، خائفا أن أدوس أحدهم وأنا فى طريق الخروج، وما أن أنجح فى خطة العبور الليلية – وكثيرا ما أفشل – حتى تفاجئنى مشكلة أخرى عند الباب، فأبى قد تفنن فى تحبيش الغرفة خوفا على الصغار واحتفاظا بدفء ناره، وإن فشل فى تفريغها من الدخان الكاتم للأنفاس، وها هو الآن قد استلقى فى أحد زوايا الحجرة مستسلما للنوم فارا من عذابات التفكير، ولا يوجد أحد كى يصلح ما سأفسده إذا خرجت ونزعت الخرق التى وضعت أسفل الباب، فلا يمكننى إذا خرجت أن أعيدها كما كانت، لكنى دوما كنت أغامر بنزعها وأفتح الباب، وبعد خروجى أجلس محاولا جذبها من الخارج لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قدر الإمكان. وكان الخارج من باب الغرفة يواجه مباشرة بالمكان الذى يرقد فيه مصدر رزقنا ورفيق أيامنا، يرقد (جمل) يجتر آلام نهاره مع أبى بين الحقول، واضعا عنقه الطويل على الأرض، متجاهلا برد الشتاء وتوحل المكان الذى يرقد فيه، تراه بين النوم واليقظة دوما فى مثل هذا الوقت، لكن ما أن يسمع أقدام قادم من بعيد أو قريب حتى ينفض عن عينيه سحابات النوم، موجها عينيه نحو القادم فى الظلام مع إبقاء عنقه على وضعه الملامس للأرض. لم يكن هذا (الجمل) مجرد حيوان تربطنا به أواصر العشرة وفيض الإنسانية الذى ينزل على الحيوان فنحسن معاملته، لكنها حياتنا المرتهنة بوجوده، فهو مصدر الرزق الأول إن لم يكن الوحيد حين تضن علينا قراريط أبى القليلة، وليست علاقتنا به بدعا من العلاقات فى قريتنا فالعلاقة بين الإنسان والحيوان فى قريتى تشذ عن القواعد العامة لعلاقات الإنسان والحيوان فى البيئات الأخرى، فلم تكن نظرتنا إليها تقل عن نظرة الآباء والأمهات لأحد أفراد الأسرة، إن لم تزد! فما أن يصيب هذا الحيوان أو ذاك مكروه ما، حتى تجد القرية عن بكرة أبيها تواسى صاحبه وتعوده فى جو أقل ما يوصف بها هو الحزين، حيث أنه حزن مشوب بأمارات الخوف القلق من هذا المستقبل الذى لا نعرف ما يحمل فى جعبته لهذه الأسرة التى تداهمها أصابع قدره دون سابق إنذار، والغريب أن هذا الإحساس لا ينتاب أحدا حين يمرض أحد صغاره، بل لا يرتقى الصغير إليه سوى بالموت وحده، ولم يكن هذا نوعا من التقديس للحيوان، بقدر ما هو دلالة على شدة الفقر الذى نحيا فى ظله، مما يجعل وجود هذه الحيوانات مركزيا فى حياتهم، وتجعل مستقبل أسرهم معلقا بأرجل هذا الحيوانات وضروعها، حيث لا بديل لديهم لحشو أفواه صغارهم ومقاومة شيطان الجوع غيرها، فكان الجمل وسيلة نقل السلع والمزروعات الوحيدة، بما يعنيه هذا من أجر يتقاضاه أبى فى المقابل، والبقرة مصدر اللبن الذى يعتبر طعام الصباح، وتأتى مشتقاته من جبن وقشدة لتسد وجبة الغداء، وتصنع أمى منه الزبد كى تبيعه لشراء ما نحتاجه من ضرورات خارج نطاق الطعام، إن كان ثمة شراء أصلا. فى ظل هذا الوضع بدأت علاقتى بالجمل، والذى أعتبره فى منزلة بين منزلتى الإنسان والحيوان، لا عن إحساس بدوره ولكن عن عشرة وتوافق عمره سنوات، أذكر ذات يوم تنازعتنا مشكلة الولاء بين أبى وبين الجمل، حين خرج الجمل رغم هدوئه عن طوره ومنح أبى عضة فى إصبعين من يده كادت أن تُعجزه لولا ستر الله، فأمطره أبى بوابل من العصى تخفيفا عن غيظه وألمه، فقد كان يتعامل مع الحيوانات وكأنه يتعامل مع بشر، فيغضب منهم ويغيظه بطئهم ويثنى عليهم حين يؤدون المطلوب منهم كما ينبغى، وبينما كان أبى فى حمى ألمه وغضبه، كان الجمل فى حالة سكون تام كأنه يعرف حجم الجرم الذى اقترفه ويعتبر تحمل الضرب فى صمت نوعا من التكفير، ساعتها كنا حائرين بين أبى والجمل، وإلى أيهما يجب أن نولى وجهة ولائنا ....

يتبع .....
حوار من المستقبل - محمد عجلان

حوار من المستقبل - محمد عجلان

فى ليلة قمراء أمام باب دارنا المبنية من الطوب اللبن، جلست مع حفيدي أرسم له بعض صور الماضي التي لم يشهدها وبقيتْ عالقة بجدار ذاكرتي كبردية فرعونية. كان سعيدا بضوء القمر الذي منحه فسحة من اللعب قبل أن ينال منه التعب، تعجبت لفرحه الطفولي بضوء قمر لا يتجاوز ليلة أو ليلتين كل شهر، سرحت حيث جذبتني يد الماضي يوم أن كنتُ فى مثل سنه، أخذت أتجول بين غرف ذاكرتي المسكونة بطفولة مختلفة، لكن يبدو أني قد أطلت الصمت، فإذا بيده الصغيرة تهزني فى فزع طفولي خشية أن أكون قد قُبضت، فوجئت بصوته المسكون بخوف طفل من فكرة موت حاصرته كأسطورة قديمة لا يعرف حقيقتها، فوجئت بصوته: سِيِدي سِيِدي (يقصد جدي) أفقت، وجدت وجهه مصفرا كأن الدم غادره هاربا حين استشعر الخطر وظنّ أن جده قد مات. فى هدوء ربت على كتفه بابتسامة تركت أثرها على نفسه قبل جسده، وإن بقيت ارتعاشة خفيفة على شفته .. بعد أن تمالك الحفيد نفسه سألني: لماذا صمت فجأة، ظننتك ... ثم سكت خوفا أن ينطق بكلمة الموت فى حضرتي، اتسعت ابتسامتي أكثر، أخبرته هل أنت سعيد بنور القمر؟ أجابني بدون تفكير: طبعا .. سألته هل يعتقد أنه من الممكن أن يكون هناك نور دائم كل ليلة يساعده على اللعب بحرية دون انتظار منحة القمر كل شهر، تعجب الصغير من كلامي، وسأل بسذاجة طفولية: هل من الممكن أن يبقى القمر على حاله هذا كل ليلة؟ ضحكت من تصوره، وأخبرته أننا لا يمكن أن نغير من دورة القمر أو الشمس، فازداد الأمر تعقيدا فى رأس الصغير وبرز السؤال من عينيه دون أن يتفوه به. وهنا قررت أن أخبره عن الصورة التي عدت بها من جولتي داخل ذاكرتي، أخذت أحدثه عن الكهرباء، سألته هل سمعت يوما ما عن الكهرباء، وكانت المرة الأولى التي تطرق هذه الكلمة أذني الصغير، فتساءل فى استغراب: كهرباء؟! .. أخذت أشرح للصغير ما هي الكهرباء، وكيف كانت أيام طفولتي البعيدة بين أضواء المصابيح، وأننا لم نكن ننتظر القمر كي يمنحنا بعض الضوء لنلهو على عتبات بيوتنا. استمع الصغير فى اندهاش، وأنا أقرأ على وجهه عبارة أفهمها جيدا، هل أصاب جدي خرف الشيخوخة؟! .. كهرباء .. مصابيح .. إضاءة دائمة !!! .. ابتلعت خيبتي فى صمت، ولم أرد أن أرهق عقل الصغير بصور الماضي الذي كدت أنساه، بل كدت أنكره !!

الإعلام كـ "جهاز أيديولوجي" وصناعة المواطن ما بعد الحداثي - محمد عجلان

الإعلام كـ "جهاز أيديولوجي" وصناعة المواطن ما بعد الحداثي - محمد عجلان

يأتي التبرير والتضليل فى مقدمة وظائف الأيديولوجيا، بهدف خلق حالة من الوعي الزائف، يتم خلالها قلب حقائق الأشياء ووضعيات الأشخاص، فأحيانا تصور السيد خادما والمسود سيدا؛ مستهدفة بذلك تحقيق مصالح شخص أو فئة معينة. ورغم كل شهادات الوفاة التى تم استخراجها لـ "الأيديولوجيا" وكل ما يقع ضمن ما يطلق عليه السرديات أو الأنساق الكبرى، والتي مررتها أطروحات "أيديولوجية" بالأساس، إلا أن الأيديولوجيا مازالت حاضرة بقوة، مع اختلاف فى التكتيك لا الإستراتيجية. وبما أننا فى سياق العولمة وأيديولوجيتها، فمن الضرورة بمكان إلقاء الضوء على فكرة الخداع وآليات تمريرها وتحديد المنخدع. وقد انطلقنا من حقيقة كون "العولمة" ظاهرة اقتصادية بالأساس، وأن ما بعد الحداثة هي غطاؤها الأيديولوجي بعد استنفاد الحداثة لقدرتها التبريرية؛ نظرا للهجوم الشديد الذي تعرضت له تحت وقع مسلسل الفشل – التطبيقي على الأقل – الذي تعرضت له، فسلّمت راية الأدلجة لما بعد الحداثة.

من المعروف أن الرأسمالية تؤكد على محورية دور الفرد، فى مقابل غيرها من الأيديولوجيات التي تعلي من شأن الجماعي على الفردي، مع العلم أن لكلٍ مغزاه الأيديولوجي وراء عمليتي التقديم والتأخير بين الفردي والجماعي، لكن ما يهمنا هنا هو "الفرد" لدى الرأسمالية بكافة أشكالها – الكلاسيكية، الموجهة، والعولمية – مع الأخذ فى الاعتبار أن السياق الأيديولوجي للرأسمالية اقتضى بعض التحورات فى توصيفه لحقيقة هذا الفرد؛ وذلك وفقا لما يقتضيه الصالح الرأسمالي بالطبع، حيث كان المطلوب فى بداية النشأة، وبموازاة السياق الحداثي، أن يكون الفرد فاعلا منتجا مؤمنا بذاته وبقدراته على قهر الطبيعة والأنظمة الفكرية والسياسية والدينية القروسطية التي تعوق حركته، ولكن بعد أن استقر الوضع للرأسمالية، للدرجة التي دعت البعض إلى اعتبارها نهاية التاريخ، وانقلب الوضع من المشروع الفردي البسيط إلى الشركات العملاقة متعدية الجنسيات، كان من الضروري أن تتغير تلك النظرة للفرد، حيث أن الفاعل حاليا تجاوز نطاق الفردي بمعناه التقليدي ليتحول إلى الشركات العملاقة لا مجرد المشروعات الصغيرة التي يديرها أفراد متساوون تقريبا، فسعت الرأسمالية إلى تحويل الفرد من وضعه السابق ليلعب دور "المستهلك" لا المنتج أو الفاعل، وضروري لتحوله من إيمانه بقدراته وفعاليته إلى مجرد متلق سلبي أن يتم التحكم به وخداعه من خلال عملية إيهام كبرى، تؤكد على حريته وتعلي راية المساواة، لكنها فى الوقت نفسه – تكاد – تقلص هذه الحرية فى الاختيار بين البضائع والسلع المتاحة فى السوق، واختزال المساواة فى المساواة الاستهلاكية، حيث من حق الجميع أن يستهلك ويستهلك دون حدود.

وبالطبع فإن صناعة الفرد / المستهلك هي ضرورة رأسمالية بالأساس، فمع الطفرة التقنية والمعلوماتية، حدثت حالة من تضخم الإنتاج السلعي – مع التأكيد على أن السلعي أصبح يشمل المادي والثقافي معا – ومن الحتمي أن يكون الاستهلاك على قدر الإنتاج حتى تستمر الدورة الرأسمالية، وإلا تكررت مأساة الكساد الكبير، أو ربما ما هو أكثر، فوفقا للتحليل الماركسي، فإن الرأسمالية معرضة لأزمات دورية بسبب اتساع الشقة بين الإنتاج الضخم وقلة الاستهلاك. ومن هنا بدأ التأكيد على الاستهلاك وتحويله إلى ثقافة، والاختزال التقريبي لمقولات الليبرالية من حرية ومساواة .. الخ فى إطار حرية الاستهلاك والمساواة فيه. وكان الجهاز الأيديولوجي للرأسمالية بشكلها العولمي هو أولا وقبل أي شئ آخر هو الجهاز الإعلامي، حيث يقوم العولميون من خلال امتلاكهم – إن لم يكن احتكارهم – للآلة الإعلامية بكافة صورها، وسيطرتهم على المادة الإعلامية المقدمة للمشاهد، يقومون بالترويج لثقافة الاستهلاك، لدرجة إيهام المشاهد أنه هو من يرغب ويطلب، رغم أن الأمر فى حقيقته هو أن وسائل الإعلام تقوم بصناعة دائمة لرغبات متجددة تستتبع طلبا دائما من قبل الأفراد، مما يدعم شبكة الإنتاج الرأسمالي بكافة صورها.

ومن أوجه الجدة فى الرأسمالية العولمية، أنها قامت بعملية سلعنة لكل شئ، فكل شئ أصبح سلعة قابلة للبيع والشراء، لا فرق فى ذلك بين ثقافي ومادي، وهنا يأت دور ما بعد الحداثة كأيديولوجية للعولمة، حيث أن عرض السلعة ومحاولة إيهام المستهلك أنه بحاجة إليها لن تكون ناجعة على مستوى التسليع الثقافي، حيث أن المُنْتَج الثقافي بطبيعته يحتاج إلى مستهلك من نوع خاص، وهذا – بالطبع- سيقلل من نسبة مستهلكي الثقافة، رغم أن التسليع الثقافي صار ضروريا فى الإنتاج العولمي، وبهذا سوف يتم ضرب عملية الإنتاج العولمي فى عنصر تميزه الإنتاجي الذي تجاوز عبره الإنتاج الرأسمالي بشكله التقليدي. فكان من الضرورة بمكان لمواجهة هذه المعضلة أن يستمر الإنتاج الثقافي ولكن بما يناسب مستوى المستهلك العادي حتى تضمن درجة استهلاكية عالية، وبما أنه من الصعوبة بمكان رفع كفاءة المستهلك لمستوى المنتج الثقافي بشكله التقليدي، وكذلك خطورة ذلك فى الوقت نفسه؛ لأنه سوف يخلق مواطنا غير قابل للتنميط والتلاعب برغباته، ولذلك فإن الحل الأمثل سوف يكون بعملية تهبيط وتدنية مستوى المنتج الثقافي حتى يناسب مستوى المستهلك العادي؛ وبذلك تتحقق فائدتان متلازمتان، الأولى زيادة معدل الاستهلاك، والثانية الاستمرار فى التحكم فى الفرد / المستهلك دون خطورة وعيوية تضرب منظومة التلاعب بأكملها.

ومن هنا جاء دور ما بعد الحداثة فى رفض النخبوية والاحتكار بكافة أشكاله وصنوفه، على اعتبار أن تلك الأفكار من مخلفات عصر الحداثة الذي تم تجاوزه، فأكدت ما بعد الحداثة على أن النخبوية التى اتسمت بها الحداثة تمثل نوعا من الاحتكار المعرفي والثقافي، مطالبة بحق المواطن العادي فى أن ينال حظه فى هذه البضاعة الثقافية، ولن يتم ذلك من خلال تقديم هذا الثقافي فى سموه و علوه كما كان معهودا فى وضعية الثقافي خلال فترة الحداثة، ولكن لابد من تقديم منتج ثقافي يناسب مستوى المواطن كما هو عليه، أي – كما سبق وأشير- سيتم عملية تهبيط وتدنية للثقافي كي يناسب المواطن / المستهلك، ويأتي ذلك من خلال التأكيد على روعة السطحي فى مقابل العميق، أو اعتبار العمق ذاته لا وجود ولا ضرورة له.

ومن بين ما تقوم به أيديولوجية العولمة ممثلة فى ما بعد الحداثة، أنها بتقديمها للسطحي على العميق ورفضها للنخبوية والاحتكار الثقافي، تخلق لدى المواطن / المستهلك حالة من "وهم المعرفة" ووهم الإشباع لرغبات هي بالأساس من صناعة آلتها الإعلامية وليست رغبات حقيقية اقتضتها حاجة الفرد، وبذلك يكون تركيز ما بعد الحداثة على السطحي، من خلال امتداحه وضمه إلى سياق مقولاتها الأساسية، سعيا نحو خداع المستهلك وتوريطه أكثر فى السياق السطحي ما بعد الحداثي. وبذلك يغيب العقل النقدي فى ظل آلة إعلامية ضخمة تعلي من شأن المقولات ما بعد الحداثية – وإن بشكل غير مباشر – حيث تدعو للسطحي وتمجد الاسترخاء، واعدة المستهلك ما بعد الحداثي أن كل شئ سوف يصله حتى باب عقله، إن بقي ثمة عقل بالأساس. وهذا الإلغاء للعقل النقدي والإعلاء من شأن السطحي يسهل مهمة مروجي الثقافة الاستهلاكية الخادمة للشركات العولمية متعدية الجنسيات، والتي أصبح نشاطها يغطي كل شئ تقريبا، بدءا من الغذائي وصولا للمعرفي.