الاثنين، 14 أبريل 2014

طلب صداقة - محمد عجلان

طلب صداقة - محمد عجلان


غائص فى نفسي كالعادة، أحاول لململة بقايا رجل يتظاهر بالصمود كي لا يسقط، تتزاحم على رأسه صور الماضي، ويغص قلبه بآلام الحاضر وتخوفات المستقبل، يقتل الوقت الميت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي كي ينسى ما لايُنسى، ويتجاهل ما يحاصره ليل نهار، يخرج من السياسة إلى الأدب إلى الخرافة إلى السطحية، يرقب من وراء ستارته السميكة ما يدور، يشارك حينا ويحجم أحيانا أخرى. لكن لا الوقت يموت ولا حتى يتحرك، بل يتحول فى كثير من الأحيان إلى أشباح تبشر بآلام جديدة تنضم إلى جوقة الآلام القائمة.

أخرجني من أفكاري إشعار أن ثمة طالب صداقة جديد يطرق عالمي، ولمحت على ملامح الإشعار شيئا من سخرية، كأن لسان حاله يقول: يبدو أن الناس مخدوعة فيك، من هذا الذي يطرق باب الكآبة بمحض إرادته، أصابني الغيظ من تلميحات الإشعار، لكن نفضت غضبي وتحركت للتعرف على الزائر الجديد، فقد وقف ببابي أكثر من اللازم، دلفت من باب الصفحة فى ترقب، وكأني لص يخشى إيقاظ سكان البيت، أول ما صادفني على أبواب الصفحة لوحة مسكونة بالسحر والغموض وُضعت كصورة شخصية. تأملتها قليلا وأنا مأخوذ من وقعها على نفسي، أحسست كأني طرقت باب حلم أسطوري، ألمح بين الحروف واللوحات آلهة صغيرة تتجول فى براءة، ما أن أخرج من لوحة بالألوان حتى تفاجئني لوحة شكلتها الحروف، تعجبت كيف الانتقال بين حقلين بهذه الروعة، رغم أن كل واحد منهما فى حاجة إلى جهد وطاقة إبداع استثنائية، كنت ألمح طيفها خلف ظهري بينما أنا أسير مندهشا عبر صفحتها، باسمة لهذا الزائر الجديد الذي يتلفت يمنة ويسرة كطفل يسرق الحلوى دون علم أمه، استشعرت يدها تربت على كتفي كأنها تقول لي" "لا تعجب فكل ما ترى نزف روح".

بينما أنا فى عزلتي الطوعية عن العالم بين عالمها، فوجئت برسالة منها، كانت تشكرني على قبول الصداقة، ضحكت بيني وبين نفسي، من منا أحق بشكر الآخر! تأخرتُ قليلا فى الرد عليها، كنت أحاول الاتصال بلغتي كي تسعفني، لكن يبدو أن اللغة كانت مشغولة فى اتصال آخر، رغم بساطة ما أرسلتَه فهو لا يتعدى شكرا أستقبله أو أرسله كل يوم ربما عدة مرات، لكن حاصرني شعور أنه لا يمكن أن أرد عليها كالآخرين، فكل شيء يؤكد أنها ليست مثلهم، ولا يليق أن أهديها لغة مستعملة، رأيتها تستحق لغة طازجة.

استجمعت نفسي، كانت اللغة بدأت تعود بعض الشيء، شكرتها على منحي فرصة المرور عبر عالمها السحري، كانت كريمة جدا حين شكرتني ثانية على ردي، لكن الغريب أن الكلمات حين عرفت أني أحادثها استسلمت فى وداعة طفل، خلتها تبتسم ثانية لحروفي الصغيرة، تمد يدها داخل نفسي فتنتقي ما يليق بها، كأنها رأت حيرتي وارتباكي من روعة المفاجأة، فأخذت تقوم بدورها فى جذب الكلمات بما يريحني.

لم أعرفها، فقط وجدتني أتواصل بأنفاس متسارعة وعينين شاخصتين نحو الشاشة، كأني أود أن أمسك بها خشية الاختفاء، تركتها ولغتي يدخلان فى حالة من العزف الثنائي، لكنها كانت سيدة الموقف وكلماتي مجرد تابع مطيع. طرأت أسئلة كثيرة على رأسي، هل ثمة أناس، بشر، خلْق، لهم هذا الوقع على النفس ؟! انتابني شعور بالخوف المفاجئ، فقد عاودتني أوهامي القديمة، كأنها بسحرها قد أزاحت الغطاء عن بئر من خرافات الماضي، هل هي كائن من كوكب آخر مر خطأً عبر صفحتي، هل يحاول هذا الكائن التعرف على الكوكب من خلالي ؟ حتى فكرة عروسة النيل التي زرعتها أمي فى نفسي كشجرة توت أخذت تطل برأسها، لكني حاولت طرد هذه الأفكار الغريبة؛ لأن عقلي أخذته العزة بالحقيقة ورفض استسلامي لتلك الأوهام.

أفقت فجأة حين وصلني ردها على شيء أرسلته، لم تسألني عن شيء وعرفت كل شيء، وأنا كذلك لم أتطرق إلى من هي، لكن كنت كمن يتجول عبر شواطئ روحها فى نزهة صيفية، لم أعرف اسمها إن كان حقيقيا أو مستعارا، تركت نفسي ولغتي تسير فى استكانة نحو ما تريده هي، كنت متعبا جدا وبي رغبة فى السير نائما دون تفكير فى الوجهة، وكانت هي تجيد الطبطبة على ظهر روحي فى روعة حلم، عجبت أني أتحدث معها بكل هذه المتعة دون أن أتحدث فى شيء، شقشقت العصافير فعرفت أني فى هذا الحلم منذ ساعات، فجأة جاءني ردها: صباحك فرح ممتد .. مع السلامة !
الواحدة بعد منتصف الليل - محمد  عجلان

الواحدة بعد منتصف الليل - محمد عجلان

الواحدة بعد منتصف الليل يرن جرس هاتفها كل ليلة، حديث العشق المسائى، كانا قد ضبطا توقيت هاتفيهما معا، فما أن تدق الواحدة حتى تضغط على زر فتح الاتصال، حتى لو لم تصلها رنة الهاتف، موقنة أنه موجود على الخط فعلا، كل مرة تداعب مسامعها كلماته المدغدغة للمشاعر، نفس الصوت كل ليلة، لا ملل إطلاقا، كأنها تسمعه للمرة الأولى، كأن صوته عذراء تتجدد بكارتها على الدوام.

كانت تستنشق صوته، تسمع عينيه، كانت تتعجب حين تفكر أن لصوته رائحة تفوح من الهاتف، لم تبح لأحد بفوضى الحواس التى تسببها لها كلماته، فما كان لأحد أن يرى أو يسمع ما تعايشه مع هذا الصوت، كان صوته حضورا تاما. لم تره سوى مرة واحدة فى طريق عودتها من المدرسة، ما أن وقعت عيناها عليه حتى توقفت الحواس عن العمل، كان تأثيره عليها كتيار كهربائى فوق مستوى تحمل المصباح، قالها كلمة واحدة: (ازيك).

لم تنبس ببنت شفة، لكن العين تكلمت والأنفاس المتسارعة كانت رسول قلبها إليه، دس فى جيبها قصاصة ورق ثم اختفى فجأة، تسارعت دقات قلبها، أحست أن قلبها سيتوقف، لم تجرؤ على فتح قصاصة الورق فى الطريق، استشعرت أن الطبيعة من حولها صارت عينا كبرى ترقب ما تفعله، الأشجار، العصافير، أسطح المنازل، نوافذها، عربات الكارو، كل العالم تحول بنظرها إلى أعين ترصد كل سكناتها وهمساتها، الجميع لديه شوق لمعرفة ما بداخل القصاصة، تلفتت يمنة ويسرة، ثم تحركت فى خطوات متعثرة قاصدة بيتها، أو بالأحرى غرفة نومها، لم تلتفت كعادتها لما يدور حولها فى الطريق، بل الغريب أنها وصلت البيت رغم أنها كانت مغيبة بوقعه عليها عن العالم من حولها. يبدو أنها الغريزة قد قامت بدورها حين غاب العقل مع صاحبنا، كانت أشبه بمن سرق أحلاما نساها القمر وهو فى طريق عودته وتخشى وشاية النجوم.

طاردتها أفكارها القديمة وهى شاخصة ببصرها من نافذة حجرتها على الشارع، قبل أن تراه ظنت قلبها أرضا بورا عافتها البذور، وها هو قلبها صار أسيره فى طرفة عين، استغربت كيف استسلم للعبودية الجديدة بهذى السرعة، هل الحرية لا قيمة لها حين يكون الأسْر بهذا الخيط الرقيق من كلمات المعشوق، هل نداءات الحرية هى دعاوى من ضلوا طريق القلب، هل حسابات القلب فوق مستوى الجبر والاختيار، هل تتحطم على صخرته ما يحار العقل فى اكتشاف كنهه؟ .. هل تنحل عقدة الأسئلة الكبرى على أبواب القلب حين يعزف على أوتاره هذا القادم من حيث لا تدرى؟

داعبتها عصفورة تحوم حول النافذة، ولأول مرة تستشعر أن الطيران ليس هبة الطيور فقط، ها هى تحلق أبعد مما تتخيل العصافير ذاتها. لم تكن أحاديثه تعجبها لسبب معين، مجرد أن يصدر الكلام عنه فيتحول إلى سحر يخرجها عن ثيابها البشرى لتحلق فى عالم ملائكى آخاذ، لم تكن تستمع لحديثه وأفكاره وما يطرحه دوما من كلمات جميلة حينا وأفكار عميقة عن القدر أحيانا أخرى، لم تشغل بالها يوما بما يقول، تكتفى دوما بأن يقول وحسبها منه هذا، حالة ذوبان صوفى مع صوت لم ترى صاحبه سوى مرة واحدة، لم تسأل نفسها يوما ما (وماذا بعد؟) .. ما تعيشه الآن هو القبل والبعد، لا تريد أن تخرج من نشوتها بأسئلة ربما تزعجها بخوف من مستقبل ربما لا يكون على ما يرام.

حين كانت تنتهى مكالمته وتسترجع رائحة صوته مرارا وتكرارا بينها وبين نفسها، كان يلفت نظرها دوما أنه قدرىٌ يحب، يعشق، يسرح بخياله إلى آفاق لم تطأها قدم قبله، لكنه مطوق بقيد اسمه القدر، ما كان لها أن تفهم من تسكنه كل هذه الطاقة من الحب والرغبة فى الحياة كيف يسلم نفسه هكذا لدوامة القدر التى تقتل على مذبحها بريق الغد المنتظر؟

أخبرها ذات مساء أنه حين رآها للمرة الأولى أحس أنها روحه التى حارت طويلا بعيدا عن جسده ثم اهتدت أخيرا إليه، عرفها قبل أن يسمع صوتها للمرة الأولى، عرف وقعه عليها قبل أن تراه، حتى مواعيد الواحدة بعد منتصف الليل سكنته وهو يضع القصاصة فى جيبها، حاول أن يطرد طيفها ما يزيد عن العام، كان يهدف التأكد أنها (هى) بعد فشل كل محاولات قتلها بخنجر عقله، كان اللقاء الأول فى طريق عودتها من المدرسة.

فاجأها حين أخبرها أنه منذ لقائهما اليتيم أنه يراها دائما، حكى لها ما حدث لها بعد أن تركها فى الطريق، كأنه كان يسير بجوارها، بل الأغرب أنه وصف ما دار بداخلها دون أن يُسقط شيئا، منذ اللحظة الأولى كأن بثا حيا خاصا بها يظهر على صفحة قلبه، سألته هل يحدث هذا مع الجميع .. هل كان دوما هكذا حتى قبل أن يلقاها؟ والمدهش فى الأمر أنه لم يكن قبل معرفته بها هكذا، ولا يحدث هذا إلا معها، حالة كشف صوفى انتابته بعد رياضة قلبية مارسها طيلة عام. إلا أن من جملة غرائبه التى أذهلتها، أخبرها أن انعكاس صورتها عل صفحة قلبه لم تأخذ نفس الوضع طوال الوقت، فى البداية كان يراها وجها لوجه، بعد ذلك أحس كأنه يرتفع قليلا عن الأرض، ثم استمر هذا الوضع حتى أصبح يراها من فوق !! .. كأنه فراشة تحوم حول رأسها، ثم صارت المسافة أبعد دون أن يخل ذلك بوضوح الرؤية، وها هو الآن يراها من مسافة يصعب قياسها، إلا أنه يراها بشكل أكثر ثباتا.

باغتها حين طلب منها أن تفتح عينيها ولو لمرة واحدة حين يكلمها، التفتت حولها مذهولة، ظنته يجالسها نفس الأريكة التى تتمدد عليها، لا يمكنه حتى لو كان بجوارها على الأريكة أن يرى عينيها المغمضتين، لابد أن يكون فى مواجهة وجهها، الذى كان محاصرا بين وسادتين إمعانا فى عزلتها، حينها أحست أنها تهاتف طيفا، سألت نفسها هل رأيْتُه حقا هذا اليوم؟ .. قلَبَ قواعد المنطق وأتاه منها الجغرافيا، إلا أنها رغم كل ما عرفته عن غرائب هذا الصوفى العاشق فى صومعتها، لم يكن يشغلها شئ عنه حتى ما يخبرها به.

دقت الواحدة، ضغطت على زر فتح الاتصال، لم يأتها الصوت، إلا أنها استمرت على الخط بنفس انفعالاتها، استمرت كأنه على الطرف الآخر، نفس الذوبان الذى استمر لأكثر من ثلاث سنوات. طال غيابه، وهى على نفس المنوال لا تغلق الهاتف إلا بعد انتهاء المدة التى كانت تحادثه فيها، لم تفتقده فهو حاضر دوما، كأنها اختزنته لسنوات الصمت، عامان لم يأت الصوت، ولم تغب رائحته.
أرانى فى وجه أمي - محمد عجلان

أرانى فى وجه أمي - محمد عجلان

1-

فى ليلة من ليالى الشتاء التى يخافها الفقراء، ففيها يجتمع عليهم صوت المعدة المنفلت من عقاله دون أن يجدوا ما يدفعون به ضريبة بطشه فيتضورون جوعا، وسهام الصقيع التى تتسلل خلال ثيابهم البالية وأغطيتهم الرقيقة بفعل السنوات، جلسنا حول لمبة الجاز التى كانت مصدر النور فى ليالى الشتاء الطويلة المخاصمة للكهرباء. وعلى مسافة منها وقرب الباب قطع من الخشب المشتعل لتدفئة المكان، والذى كاد يقتلنا مرارا، لا بسبب اشتعاله فى أحد مدخراتنا البسيطة، لكن لحرقه هواء الغرفة التى تفنن أبى فى تحبيشها بالخرق القديمة حتى لا يداهمنا برد لا نقدر على رده، جلستُ فى ركن قصى من الحجرة منشغلا برواية أقلب صفحاتها فى غيبة عما يدور حولى، بينما كان أبى وإخوتى يتسامرون بأحاديث المساء المكررة، فكانت حكايات أبى للصغار هى دار السينما وقاعة المسرح الليلى التى يحلو لهم أن يتابعوها بكل شوق، رغم أن معظم حكاياته مكررة، يعيدها ويزيدها بنفس الانفعالات واللازمات، ولم يكن هذا غريبا حيث أن حياته البسيطة لم تتح له أن يدخر أكثر من هذا، لكن الغريب كان فى رد فعل الأطفال الصغار تجاه ما يقول، فالاستمتاع هو نفسه كل مرة، كأنها لم تخترق آذانهم وتسكن عقولهم مئات المرات بنفس الطريقة!

 الوحيدة الساهمة عن كل هؤلاء، الشاخصة نحوى بعينين مكدودتين من عناء أيام طوال لم تعرف فيها طعم الراحة ولم تنل نصيبا من المتعة، كانت أمى تحلم معى دون أن تعرف فيما أحلم، تشاركنى آلامى لا عن علم بحقيقة ما أعانيه، لكن يبدو أنها جِبلة الألم التى شكلتها بطابعها من ناحية، وغريزة الأمومة التى خلقت نوعا من التواصل الخفى بين قلبينا من ناحية أخرى. كانت انطباعات ما أقرأ تنعكس على صفحة وجهى فى ظل ضوء المصباح الهزيل، وكأن وجهها مرآة وجهى فإذا بابتسامى وتقطيبى واندهاشى على وجه أمى، تاهت عن أبى وصغاره وحكاياته مع شاب فى بداية العشريينات يرسم بخياله مستقبلا أفضل يُكذِّب الواقع إمكانات تحقيقه، لكنها كانت تصدق حتى كذبى، لم تكن قادرة أن تتحمل عدم تصديقى، كانت ترى فيَّ شيئا من الأنبياء والزعماء، لا عن موهبة أو حضور خارق فى محيطى الاجتماعى، لكن عن قلب أم داستها أقدام الأيام الفقيرة، فتشبثت بأول مولود لها أظهر بعض التقدم فى دراسته، لم تكن أحلامها أن تعيش حياة أفضل مما عاشته وتعيشه، لكنه أمل فى هذا الأفضل الذى كثيرا ما تحدث به هذا الابن الحالم.

سمعت منه أسماء فولتير وديكنز ونجيب محفوظ وطه حسين والعقاد ونيتشه وهيسه، كانت لا تميز أسماء البشر الغرباء من أسماء الأماكن التى لا تعرفها، فنيتشه وباريس هما شيئان ربما اخترقا أذنيها خلال حديث لا تفقهه مع ابنها، كانت تحب نيتشه لأنه يحبه، وتكره آباء الكنيسة فى العصور الوسطى لأنه يكرههم من ناحية ويشبهون إقطاعى قريتها الذين أذاقوها ألوان الذل والمهانة سنوات عديدة، كانت تخرج عن صمتها أحيانا حين يحدثها عن البؤساء، وتستغرب أن بلاد الخواجات بها أناس يعانون كما نعانى، هل هذا الخواجة الذى يتحكم فى مصير قريتنا، وغيره من الخواجات يعانون ويألمون كما تعانى وتألم؟ كانت تقبل هذه الحقيقة على مضض، وربما أرشدتنى إلى أن أعيد النظر، لعل هذا (الجدع) ،تقصد الكاتب، قد قصد مكانا آخر أقرب لقريتنا من بلاد (بره). لم أكن أحاول إقناعها بكل شئ لأن هذا كان فوق طاقتها، كنت أستمتع حين أرى مشاعرى منعكسة على صفحة وجهها الذى قتل أنوثته الفقر ومثّل به العوز، كان يأخذنى الغرور أحيانا بأن هذا ليس قلب الأم كما يقولون، لكن أعتبره قوة أمتلكها وأستطيع من خلالها أن أؤثر فيمن مثل أمى من البسطاء، لكن الواقع كان يكذّب هذا، فما كان تأثيرى على أحد يضاهى تأثيرى عليها، مما يؤكد أن هذا ليس قوة إرسال بقدر ما هى روعة فى الاستقبال.

كان يحلو لها أحيانا أن تخرج عن صمتها، لكنها لا تخرج عن دائرتى أيضا، كان حديثها دوما معلقا بسنوات طفولتى، كيف كنت أقضى نهارى داخل (الكانون) أحفر وكأنى أبحث عن شئ، كانت تترحم على أيام هدوئى حين كنت لا أعصى لها أمرا ولا أسبب لها قلقا؛ لأنى لم أبارح المكان التى ترصدنى فيه عن قرب، وكأنها كانت تتمنى أن أبقى على عهدى بالمكان والكانون إلى أجل غير مسمى. كانت تحزن كثيرا عندما يأتى المساء لأنى كنت أخافه، فإخوتى الكبار كانوا يتفنون فى تخويفى مخرجين مكنونهم الشيطانى ضدى، وكانت أبرز منغصات مسائى هو تخويفى بـ "البعبع"، وما كان هذا البعبع سوى انعكاس ظل أياديهم ووجوهم على حائط الغرفة فى ظلام الليل المنتهك بضوء المصباح الباهت، كان أمرا مرعبا بالنسبة لى، فما كانت أمى تملك سوى أن تنتهرهم وتحتضننى محاولة ،دون جدوى، إقناعى أنه لا شئ يدعو للخوف. كانت تذكر هذه الروايات باسمة، كأنها تخاطبنى بعينيها: ها أنت صرت رجلا لا تهاب البعبع الآن، صرت أمانى وعزوتى بعد أن كنت تبحث بين أحضانى عن الأمان. ما لم تكن تعلمه أمى حين تبعث برسالات قلبها عبر عينيها، أنى دوما أشعر فى حضنها بالأمان، وأنى لست هذا الهرقل الذى لا يأتيه الخوف من بين يديه ولا من خلفه، لكنى كنت أخشى أن أصدمها بحقيقة الأمر، تركتها تنسج بكل ما أوتيت من ضعف صورة البطل فى رأسها.

2- 

أخرجها من استغراقها فى دائرة ابنها مهرجان النوم الجماعى الذى بدأه الصغار، بعد فراغ الأب من صب حكاياته فى نفوسهم ربما حتى دون المرور بعقولهم، فها هو طفل قد استلقى على ظهره بعد جرعة استمتاعه بأحاديث الأب البارع فى الحكى، وأخرى قد ارتمت على وجهها فجأة حين داعبت حكايات الأب نفسها ودغدغت حرارة الغرفة رأسها معلنة انتصارها على برد شتائهم القاسى. فى مشهد يومى فى مثل هذا التوقيت تبدأ أمى فى عملية (رص) الصغار على الأرض بجوار بعضهم البعض، وبينما تكون مشغولة بالنيام لا يخلو الجو من طفل آخر مازال متمسكا بإعادة القصة من جديد، متجاهلا معاناة أبيه المنهك من عذاب يوم قاس، فتأخذه الأم باللين حينا وتحيل أوراقه إلى الأب لاستخدام الشدة أحيانا، فهى لا تريد الشدة ولا تطاوعها نفسها عليها. بعد أن تنتهى من عملية تجمعيهم بجوار بعضهم على أرض الحجرة، فى صورة إن دلت على الفقر المدقع حيث لا أسِرّة خاصة ولا عامة، إلا أنها تشى بأن للفقر أيضا روعته، فهذا المشهد يخلق دفئا ماديا ومعنويا، تجد أيادى متداخلة وأنفاسا متمازجة تخلق حالة من التوحد حول دفء واحد أو برد واحد، تقوم أمى بعد ذلك بإحضار أغطية تبدو فى شكلها العام أشبه بأزياء (البلياتشو) فقد تفننت فى تجميع أجزاء متفرقة مختلفة الألوان والخامات من بقايا الأثواب البالية أو من قصاصات قد زادت عن حاجة (الخياطة)، كل هذا من أجل صناعة (تلبيسة) تمنح غطاءنا بعضا من السُمك الذى فقده بفعل الزمن الذى جعله رقيقا أكثر مما ينبغى. كل هذا وأنا شارد عن الجميع وعين أمى تراقبنى بين حين وآخر وهى تقوم بمهمتها المقدسة كقطة حنونة مع صغارها، بينما يكون أبى قد تخلى عن أداء دور مهرج الأطفال ليصطدم بصخرة الواقع ومخاوفه الدفينة من المستقبل المجهول لهؤلاء الممددين بجانبه على الأرض فى شكل يملأ القلب حزنا – إن لم يكن مسئولا عنهم – ويملأه انكسارا وخوفا إن كان أباهم ومعقد آمالهم الصغيرة، فدائما ما تجول بخاطره فكرة فحواها إذا كان يلقى كل هذا العناء فى مجرد إطعامهم، فكيف به حين تداهمه حاجات المستقبل الكبيرة، فلن تنقذه قراريطه القليلة من فضيحة يفرضها سؤال اللئام، لأن اللئيم الذى يضن عليك بفك كربك، يضطرك مرغما إلى لئيم آخر. كان دعاؤه دوما (سترك يا رب). وبينما هو فى حزنه العميق بواقع ومستقبل هذه الطيور الصغيرة التى كفت عن الشقشقة منذ قليل مسلمين جفونهم للنوم، فإذا بيد خشنة تيبست أطرافها من عناء أيام قاسية تربت على كتفه، ناظرة بحنو أم ونظرة طفل ودودة (ربك كبير)، فتنزل كلماتها دوما على نفسه كماء بارد على فم عطشان أحرقه قيظ شديد، يبادلها نظرات أقرب إلى الاستسلام منها إلى الرضا، يجول بخاطره ضيق أفقها وعدم قدرتها على قراءة الوضع كما يراه، إلا أنها ربما كانت أعمق مما يتخيل بكثير، فقد كان قلبها عامرا بإيمان صوفى يعجز عقله عن سبر أغواره، فما من ضائقة تواجهنا – وما أكثرها – حتى أرى فيها (موسى) مؤنث يؤمن حين تنقطع أسباب النجاة أن له ربا لن يخذله، يبدو أنه نوع من الإيمان شكّلته رياضات المعاناة الراضية بالقسمة والنصيب، فمن يرضى بما نحن فيه، فثق تماما أنه لن تقدر يد الأيام على العبث بيقينه وإيمانه، وهى كانت كذلك دوما. نظرتها للأمور تستحضر فى ذهنى تصورا غريبا، وهو أن الحقيقة ولدت بسيطة وتسير فى شكل دائرى! وستعود بعد رحلتها الطويلة بسيطة ثانية، وما كل هذه التعقيدات التى يصنعها تعلق البشر بالحقيقة سوى جهد بشرى ضائع؛ لأنه يبحث عن الحقيقة بآليات ليست من جنسها، يبدو أن أمى قُذفت بنور هداها بينما نحن نتخبط فى متاهات العقل!

قررتُ الخروج من الغرفة خوفا من إزعاج الصغار الذين يبدو أن الأحلام قد عاجلتهم وبدأت تداعبهم مبكرا، فهذا يبتسم والآخر يشتم زميله الذى أخذ منه حصانه المصنوع من الطين نهارا، أحلام متجاورة تحت غطاء لا يشجع على الحلم حتى ولو بحصان من طين، لكنها رحمة الله وعدالة الأحلام!! وبينما بعضهم غرق فى عالم الأحلام تجد أحدهم قد تكوّم جاذبا ركبتيه لتغطى وجهه فى وضع جنينى يعيده سيرته الرحمية الأولى، لكن رقدته هذه تزعج الآخرين، فهى تُضيّق عليهم من ناحية، وتمنحهم كرمه الحاتمى فى توزيع رفساته ولكماته من ناحية أخرى، مما ينذر ببداية حرب أهلية، فما أن يبدأ هذا الأخ فى طقسه الليلى حتى يستيقظ البعض ويدخلون معه فى شجار كأنه قد رفسهم عن عمد، ومع غياب المنطق عن أذهان الصغار، لا يجد الرافس الأعظم حجة جاهزة للرد، فتشتعل نار كرامته ويرد عن نفسه هجوم القوات المعادية التى داهمته من القبائل المجاورة له فى الفراش، ويا لروعة الطفولة حين ترى أحدهم وهو فى قمة غضبه وصراعه يرتمى بشكل فجائى على الأرض مستغرقا فى النوم من جديد، لكن هذا يشعل غيظ خصمه فيهزه محاولا إيقاظه لاستكمال المعركة، وإن يأس منه يدفعه فى صدره دفعة إخوة خفيفة، ثم يخلد للنوم من جديد، لكن إذا حمى وطيس المعركة ولم يداهم سلطان النوم عين أحدهم، فلابد من تدخل قوى أخرى محايدة لإنهاء المعركة، وربما تكون حمامة السلام التى ظهرت فجأة لوضع حد للصراع الدائر فى الفراش طفلا آخر لم ينل حظه من الرفس واللكم فيحاول حل المشكلة لا عن فضيلة حلّت به، لكن محاولة منه فى نوم هادئ، أما إذا خرجت الأزمة عن إمكانات القوى الطفولية فى الحل، فلابد من اللجوء لقوى كبرى، ففى هذا الوقت يخرج أبى ببطء شديد من حالة استغراقه على تدافع الصغار وتضاربهم، والذى كان رغم تبسطه معهم فى الحكى والمداعبة حاضر الهيبة دوما، وكانت كلمة واحدة منه كفيلة بإنهاء صراع الصغار الموزعين بين النوم واليقظة والأحلام، فيطلقها فى ثقة مخترقة أسماعهم .. "اتخمدوا" .. فلا تسمع بعدها صوتا لأحد، ويرتمى الجميع معلنين الاستسلام، وإن كان بعضهم يحاول أحيانا إكمال معركته فى صمت خوفا من العقاب، والتى لا ينتبه الأب إلى استمرارها كحرب باردة تحت الغطاء، إلا حين يجيئه صوت بكاء أحدهم بشكل مفاجئ بسبب ضربة فى عينه أو عضة فى قدمه، فيعلو صوت الأب منذرا .. متوعدا، فتنتهى الحرب الساخنة والباردة معا ويستسلمون من جديد للنوم والأحلام.

3- 

هممت بالخروج من الغرفة المختنقة بأنفاس الصغار والدخان الساكن فى أرجائها بفعل النيران التى أشعلها أبى فيها، لكن لم يكن الأمر بالسهولة التى يتخيلها البعض، فقد انفرط عقد الصغار وتوزعوا فى أرضية الغرفة فى حرية تامة ضاربين بقيود الغطاء عرض الحائط، وتبدأ مرحلة الفوضى حين يضيق أحدهم بالغطاء فيمنحه رفسة من قدمه، وتكون هذه بداية الانتشار على أرضية الحجرة، فتجد أحدهم وقد صارت قدمه على أعتاب فم الآخر، ورأس أحدهم قد احتضنت أحذية بالية قرب الباب، فى الوقت الذى استقر فيه طفل فى مكانه دون حراك يذكر، غير عابئ بحملة إعادة الانتشار التى تحدث من حوله. فكنت أتخطى رقابا وأتفادى أرجلا فى ظل ظلام الحجرة، خائفا أن أدوس أحدهم وأنا فى طريق الخروج، وما أن أنجح فى خطة العبور الليلية – وكثيرا ما أفشل – حتى تفاجئنى مشكلة أخرى عند الباب، فأبى قد تفنن فى تحبيش الغرفة خوفا على الصغار واحتفاظا بدفء ناره، وإن فشل فى تفريغها من الدخان الكاتم للأنفاس، وها هو الآن قد استلقى فى أحد زوايا الحجرة مستسلما للنوم فارا من عذابات التفكير، ولا يوجد أحد كى يصلح ما سأفسده إذا خرجت ونزعت الخرق التى وضعت أسفل الباب، فلا يمكننى إذا خرجت أن أعيدها كما كانت، لكنى دوما كنت أغامر بنزعها وأفتح الباب، وبعد خروجى أجلس محاولا جذبها من الخارج لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قدر الإمكان. وكان الخارج من باب الغرفة يواجه مباشرة بالمكان الذى يرقد فيه مصدر رزقنا ورفيق أيامنا، يرقد (جمل) يجتر آلام نهاره مع أبى بين الحقول، واضعا عنقه الطويل على الأرض، متجاهلا برد الشتاء وتوحل المكان الذى يرقد فيه، تراه بين النوم واليقظة دوما فى مثل هذا الوقت، لكن ما أن يسمع أقدام قادم من بعيد أو قريب حتى ينفض عن عينيه سحابات النوم، موجها عينيه نحو القادم فى الظلام مع إبقاء عنقه على وضعه الملامس للأرض. لم يكن هذا (الجمل) مجرد حيوان تربطنا به أواصر العشرة وفيض الإنسانية الذى ينزل على الحيوان فنحسن معاملته، لكنها حياتنا المرتهنة بوجوده، فهو مصدر الرزق الأول إن لم يكن الوحيد حين تضن علينا قراريط أبى القليلة، وليست علاقتنا به بدعا من العلاقات فى قريتنا فالعلاقة بين الإنسان والحيوان فى قريتى تشذ عن القواعد العامة لعلاقات الإنسان والحيوان فى البيئات الأخرى، فلم تكن نظرتنا إليها تقل عن نظرة الآباء والأمهات لأحد أفراد الأسرة، إن لم تزد! فما أن يصيب هذا الحيوان أو ذاك مكروه ما، حتى تجد القرية عن بكرة أبيها تواسى صاحبه وتعوده فى جو أقل ما يوصف بها هو الحزين، حيث أنه حزن مشوب بأمارات الخوف القلق من هذا المستقبل الذى لا نعرف ما يحمل فى جعبته لهذه الأسرة التى تداهمها أصابع قدره دون سابق إنذار، والغريب أن هذا الإحساس لا ينتاب أحدا حين يمرض أحد صغاره، بل لا يرتقى الصغير إليه سوى بالموت وحده، ولم يكن هذا نوعا من التقديس للحيوان، بقدر ما هو دلالة على شدة الفقر الذى نحيا فى ظله، مما يجعل وجود هذه الحيوانات مركزيا فى حياتهم، وتجعل مستقبل أسرهم معلقا بأرجل هذا الحيوانات وضروعها، حيث لا بديل لديهم لحشو أفواه صغارهم ومقاومة شيطان الجوع غيرها، فكان الجمل وسيلة نقل السلع والمزروعات الوحيدة، بما يعنيه هذا من أجر يتقاضاه أبى فى المقابل، والبقرة مصدر اللبن الذى يعتبر طعام الصباح، وتأتى مشتقاته من جبن وقشدة لتسد وجبة الغداء، وتصنع أمى منه الزبد كى تبيعه لشراء ما نحتاجه من ضرورات خارج نطاق الطعام، إن كان ثمة شراء أصلا. فى ظل هذا الوضع بدأت علاقتى بالجمل، والذى أعتبره فى منزلة بين منزلتى الإنسان والحيوان، لا عن إحساس بدوره ولكن عن عشرة وتوافق عمره سنوات، أذكر ذات يوم تنازعتنا مشكلة الولاء بين أبى وبين الجمل، حين خرج الجمل رغم هدوئه عن طوره ومنح أبى عضة فى إصبعين من يده كادت أن تُعجزه لولا ستر الله، فأمطره أبى بوابل من العصى تخفيفا عن غيظه وألمه، فقد كان يتعامل مع الحيوانات وكأنه يتعامل مع بشر، فيغضب منهم ويغيظه بطئهم ويثنى عليهم حين يؤدون المطلوب منهم كما ينبغى، وبينما كان أبى فى حمى ألمه وغضبه، كان الجمل فى حالة سكون تام كأنه يعرف حجم الجرم الذى اقترفه ويعتبر تحمل الضرب فى صمت نوعا من التكفير، ساعتها كنا حائرين بين أبى والجمل، وإلى أيهما يجب أن نولى وجهة ولائنا ....

يتبع .....
حوار من المستقبل - محمد عجلان

حوار من المستقبل - محمد عجلان

فى ليلة قمراء أمام باب دارنا المبنية من الطوب اللبن، جلست مع حفيدي أرسم له بعض صور الماضي التي لم يشهدها وبقيتْ عالقة بجدار ذاكرتي كبردية فرعونية. كان سعيدا بضوء القمر الذي منحه فسحة من اللعب قبل أن ينال منه التعب، تعجبت لفرحه الطفولي بضوء قمر لا يتجاوز ليلة أو ليلتين كل شهر، سرحت حيث جذبتني يد الماضي يوم أن كنتُ فى مثل سنه، أخذت أتجول بين غرف ذاكرتي المسكونة بطفولة مختلفة، لكن يبدو أني قد أطلت الصمت، فإذا بيده الصغيرة تهزني فى فزع طفولي خشية أن أكون قد قُبضت، فوجئت بصوته المسكون بخوف طفل من فكرة موت حاصرته كأسطورة قديمة لا يعرف حقيقتها، فوجئت بصوته: سِيِدي سِيِدي (يقصد جدي) أفقت، وجدت وجهه مصفرا كأن الدم غادره هاربا حين استشعر الخطر وظنّ أن جده قد مات. فى هدوء ربت على كتفه بابتسامة تركت أثرها على نفسه قبل جسده، وإن بقيت ارتعاشة خفيفة على شفته .. بعد أن تمالك الحفيد نفسه سألني: لماذا صمت فجأة، ظننتك ... ثم سكت خوفا أن ينطق بكلمة الموت فى حضرتي، اتسعت ابتسامتي أكثر، أخبرته هل أنت سعيد بنور القمر؟ أجابني بدون تفكير: طبعا .. سألته هل يعتقد أنه من الممكن أن يكون هناك نور دائم كل ليلة يساعده على اللعب بحرية دون انتظار منحة القمر كل شهر، تعجب الصغير من كلامي، وسأل بسذاجة طفولية: هل من الممكن أن يبقى القمر على حاله هذا كل ليلة؟ ضحكت من تصوره، وأخبرته أننا لا يمكن أن نغير من دورة القمر أو الشمس، فازداد الأمر تعقيدا فى رأس الصغير وبرز السؤال من عينيه دون أن يتفوه به. وهنا قررت أن أخبره عن الصورة التي عدت بها من جولتي داخل ذاكرتي، أخذت أحدثه عن الكهرباء، سألته هل سمعت يوما ما عن الكهرباء، وكانت المرة الأولى التي تطرق هذه الكلمة أذني الصغير، فتساءل فى استغراب: كهرباء؟! .. أخذت أشرح للصغير ما هي الكهرباء، وكيف كانت أيام طفولتي البعيدة بين أضواء المصابيح، وأننا لم نكن ننتظر القمر كي يمنحنا بعض الضوء لنلهو على عتبات بيوتنا. استمع الصغير فى اندهاش، وأنا أقرأ على وجهه عبارة أفهمها جيدا، هل أصاب جدي خرف الشيخوخة؟! .. كهرباء .. مصابيح .. إضاءة دائمة !!! .. ابتلعت خيبتي فى صمت، ولم أرد أن أرهق عقل الصغير بصور الماضي الذي كدت أنساه، بل كدت أنكره !!

الإعلام كـ "جهاز أيديولوجي" وصناعة المواطن ما بعد الحداثي - محمد عجلان

الإعلام كـ "جهاز أيديولوجي" وصناعة المواطن ما بعد الحداثي - محمد عجلان

يأتي التبرير والتضليل فى مقدمة وظائف الأيديولوجيا، بهدف خلق حالة من الوعي الزائف، يتم خلالها قلب حقائق الأشياء ووضعيات الأشخاص، فأحيانا تصور السيد خادما والمسود سيدا؛ مستهدفة بذلك تحقيق مصالح شخص أو فئة معينة. ورغم كل شهادات الوفاة التى تم استخراجها لـ "الأيديولوجيا" وكل ما يقع ضمن ما يطلق عليه السرديات أو الأنساق الكبرى، والتي مررتها أطروحات "أيديولوجية" بالأساس، إلا أن الأيديولوجيا مازالت حاضرة بقوة، مع اختلاف فى التكتيك لا الإستراتيجية. وبما أننا فى سياق العولمة وأيديولوجيتها، فمن الضرورة بمكان إلقاء الضوء على فكرة الخداع وآليات تمريرها وتحديد المنخدع. وقد انطلقنا من حقيقة كون "العولمة" ظاهرة اقتصادية بالأساس، وأن ما بعد الحداثة هي غطاؤها الأيديولوجي بعد استنفاد الحداثة لقدرتها التبريرية؛ نظرا للهجوم الشديد الذي تعرضت له تحت وقع مسلسل الفشل – التطبيقي على الأقل – الذي تعرضت له، فسلّمت راية الأدلجة لما بعد الحداثة.

من المعروف أن الرأسمالية تؤكد على محورية دور الفرد، فى مقابل غيرها من الأيديولوجيات التي تعلي من شأن الجماعي على الفردي، مع العلم أن لكلٍ مغزاه الأيديولوجي وراء عمليتي التقديم والتأخير بين الفردي والجماعي، لكن ما يهمنا هنا هو "الفرد" لدى الرأسمالية بكافة أشكالها – الكلاسيكية، الموجهة، والعولمية – مع الأخذ فى الاعتبار أن السياق الأيديولوجي للرأسمالية اقتضى بعض التحورات فى توصيفه لحقيقة هذا الفرد؛ وذلك وفقا لما يقتضيه الصالح الرأسمالي بالطبع، حيث كان المطلوب فى بداية النشأة، وبموازاة السياق الحداثي، أن يكون الفرد فاعلا منتجا مؤمنا بذاته وبقدراته على قهر الطبيعة والأنظمة الفكرية والسياسية والدينية القروسطية التي تعوق حركته، ولكن بعد أن استقر الوضع للرأسمالية، للدرجة التي دعت البعض إلى اعتبارها نهاية التاريخ، وانقلب الوضع من المشروع الفردي البسيط إلى الشركات العملاقة متعدية الجنسيات، كان من الضروري أن تتغير تلك النظرة للفرد، حيث أن الفاعل حاليا تجاوز نطاق الفردي بمعناه التقليدي ليتحول إلى الشركات العملاقة لا مجرد المشروعات الصغيرة التي يديرها أفراد متساوون تقريبا، فسعت الرأسمالية إلى تحويل الفرد من وضعه السابق ليلعب دور "المستهلك" لا المنتج أو الفاعل، وضروري لتحوله من إيمانه بقدراته وفعاليته إلى مجرد متلق سلبي أن يتم التحكم به وخداعه من خلال عملية إيهام كبرى، تؤكد على حريته وتعلي راية المساواة، لكنها فى الوقت نفسه – تكاد – تقلص هذه الحرية فى الاختيار بين البضائع والسلع المتاحة فى السوق، واختزال المساواة فى المساواة الاستهلاكية، حيث من حق الجميع أن يستهلك ويستهلك دون حدود.

وبالطبع فإن صناعة الفرد / المستهلك هي ضرورة رأسمالية بالأساس، فمع الطفرة التقنية والمعلوماتية، حدثت حالة من تضخم الإنتاج السلعي – مع التأكيد على أن السلعي أصبح يشمل المادي والثقافي معا – ومن الحتمي أن يكون الاستهلاك على قدر الإنتاج حتى تستمر الدورة الرأسمالية، وإلا تكررت مأساة الكساد الكبير، أو ربما ما هو أكثر، فوفقا للتحليل الماركسي، فإن الرأسمالية معرضة لأزمات دورية بسبب اتساع الشقة بين الإنتاج الضخم وقلة الاستهلاك. ومن هنا بدأ التأكيد على الاستهلاك وتحويله إلى ثقافة، والاختزال التقريبي لمقولات الليبرالية من حرية ومساواة .. الخ فى إطار حرية الاستهلاك والمساواة فيه. وكان الجهاز الأيديولوجي للرأسمالية بشكلها العولمي هو أولا وقبل أي شئ آخر هو الجهاز الإعلامي، حيث يقوم العولميون من خلال امتلاكهم – إن لم يكن احتكارهم – للآلة الإعلامية بكافة صورها، وسيطرتهم على المادة الإعلامية المقدمة للمشاهد، يقومون بالترويج لثقافة الاستهلاك، لدرجة إيهام المشاهد أنه هو من يرغب ويطلب، رغم أن الأمر فى حقيقته هو أن وسائل الإعلام تقوم بصناعة دائمة لرغبات متجددة تستتبع طلبا دائما من قبل الأفراد، مما يدعم شبكة الإنتاج الرأسمالي بكافة صورها.

ومن أوجه الجدة فى الرأسمالية العولمية، أنها قامت بعملية سلعنة لكل شئ، فكل شئ أصبح سلعة قابلة للبيع والشراء، لا فرق فى ذلك بين ثقافي ومادي، وهنا يأت دور ما بعد الحداثة كأيديولوجية للعولمة، حيث أن عرض السلعة ومحاولة إيهام المستهلك أنه بحاجة إليها لن تكون ناجعة على مستوى التسليع الثقافي، حيث أن المُنْتَج الثقافي بطبيعته يحتاج إلى مستهلك من نوع خاص، وهذا – بالطبع- سيقلل من نسبة مستهلكي الثقافة، رغم أن التسليع الثقافي صار ضروريا فى الإنتاج العولمي، وبهذا سوف يتم ضرب عملية الإنتاج العولمي فى عنصر تميزه الإنتاجي الذي تجاوز عبره الإنتاج الرأسمالي بشكله التقليدي. فكان من الضرورة بمكان لمواجهة هذه المعضلة أن يستمر الإنتاج الثقافي ولكن بما يناسب مستوى المستهلك العادي حتى تضمن درجة استهلاكية عالية، وبما أنه من الصعوبة بمكان رفع كفاءة المستهلك لمستوى المنتج الثقافي بشكله التقليدي، وكذلك خطورة ذلك فى الوقت نفسه؛ لأنه سوف يخلق مواطنا غير قابل للتنميط والتلاعب برغباته، ولذلك فإن الحل الأمثل سوف يكون بعملية تهبيط وتدنية مستوى المنتج الثقافي حتى يناسب مستوى المستهلك العادي؛ وبذلك تتحقق فائدتان متلازمتان، الأولى زيادة معدل الاستهلاك، والثانية الاستمرار فى التحكم فى الفرد / المستهلك دون خطورة وعيوية تضرب منظومة التلاعب بأكملها.

ومن هنا جاء دور ما بعد الحداثة فى رفض النخبوية والاحتكار بكافة أشكاله وصنوفه، على اعتبار أن تلك الأفكار من مخلفات عصر الحداثة الذي تم تجاوزه، فأكدت ما بعد الحداثة على أن النخبوية التى اتسمت بها الحداثة تمثل نوعا من الاحتكار المعرفي والثقافي، مطالبة بحق المواطن العادي فى أن ينال حظه فى هذه البضاعة الثقافية، ولن يتم ذلك من خلال تقديم هذا الثقافي فى سموه و علوه كما كان معهودا فى وضعية الثقافي خلال فترة الحداثة، ولكن لابد من تقديم منتج ثقافي يناسب مستوى المواطن كما هو عليه، أي – كما سبق وأشير- سيتم عملية تهبيط وتدنية للثقافي كي يناسب المواطن / المستهلك، ويأتي ذلك من خلال التأكيد على روعة السطحي فى مقابل العميق، أو اعتبار العمق ذاته لا وجود ولا ضرورة له.

ومن بين ما تقوم به أيديولوجية العولمة ممثلة فى ما بعد الحداثة، أنها بتقديمها للسطحي على العميق ورفضها للنخبوية والاحتكار الثقافي، تخلق لدى المواطن / المستهلك حالة من "وهم المعرفة" ووهم الإشباع لرغبات هي بالأساس من صناعة آلتها الإعلامية وليست رغبات حقيقية اقتضتها حاجة الفرد، وبذلك يكون تركيز ما بعد الحداثة على السطحي، من خلال امتداحه وضمه إلى سياق مقولاتها الأساسية، سعيا نحو خداع المستهلك وتوريطه أكثر فى السياق السطحي ما بعد الحداثي. وبذلك يغيب العقل النقدي فى ظل آلة إعلامية ضخمة تعلي من شأن المقولات ما بعد الحداثية – وإن بشكل غير مباشر – حيث تدعو للسطحي وتمجد الاسترخاء، واعدة المستهلك ما بعد الحداثي أن كل شئ سوف يصله حتى باب عقله، إن بقي ثمة عقل بالأساس. وهذا الإلغاء للعقل النقدي والإعلاء من شأن السطحي يسهل مهمة مروجي الثقافة الاستهلاكية الخادمة للشركات العولمية متعدية الجنسيات، والتي أصبح نشاطها يغطي كل شئ تقريبا، بدءا من الغذائي وصولا للمعرفي.

غبائيات طفل - محمد عجلان

غبائيات طفل - محمد عجلان

فى 1992 كنت طالبا بالصف الثاني الإعدادي، كانت الحصة الأولى فى مادة العلوم، حيث لم تكن المدرسة بعد مرور أكثر من شهر قد وفرت لنا مدرسا لتدريس هذه المادة، وبعد طول عناء وبحث منهم وسعادة وعدم انتظار منا بالأساس، جاءنا شخص قيل – والعهدة على ناظر المدرسة آنذاك- أنه مدرس المادة، لم تكن ملامحه تشي أن قدميه دلفتا مدرسة من قبل، قصير، نحيف، زائغ النظرات، متيبس الوجه كأنه خارج لتوه من مقبرة، يبحث عن ريقه وكأنه أكل ملحا قبل الدخول إلى الفصل، ملابسه تعكس ملامحه فى حالة من التوافق الفوضوي، يمشي كأنه سيسقط بين لحظة وأخرى، أحدثت نظراته الغريبة المريبة التي أخذ يوزعها بين الطلبة فور دخوله الفصل أثرها فى النفوس، فإذا بالبعض يتغامز، بينما آخرون أصابتهم الدهشة للوهلة الأولى، فى حين اندفع البعض الآخر فى ضحك هستيري غير قادرين على السيطرة على أنفسهم، فما كان منه إلا أن يمارس علينا طقسا دراسيا معتادا وهو الضرب، وما أن فرغ من ضرب الطلبة الضاحكين، إذا بالطبيعة تعلن غضبها علينا، وكأنها تدافع عن كائن أرسلته فى مهمة كونية فى مدرستنا ولم نحسن استقباله، فأخذت المدرسة تهتز هزة عنيفة لم نعهدها من قبل، خرج الجميع عن صوابه، وما أن لمح المدرس الخوف باديا على وجوهنا، فإذا به – بحكم كونه مدرس علوم - يقول: ألا تعرفون ما هذا؟ ودون أن ينتظر إجابة طبعا قال: إنه زلزال. فما كان من الجميع دون أن يدرك حقيقة الكلمة إلا أن يقفز من النافذة، خاصة أننا كنا فى الدور الأرضي. وكان المدرس بالطبع فى مقدمة القافزين.

وبينما الجميع يفرون هربا من النوافذ والأبواب نجاةً بأرواحهم، إذا بغبائي يحاصرني ويحضني شيطاني على أن أبقى بعض الوقت أجمع بعض قطع الطباشير الملقاة على أرضية حجرة الدراسة؛ كي أشوه بشخبطاتي الطفولية جدران القرية، ممارسا دوري الإبداعي على الجدران، أشتم هذا وأسب ذاك، بدءا من الزملاء وصولا لآبائهم وأمهاتهم إن اقتضت ظروف الشيطنة، خاصة أولئك الذين لا أستطيع مواجهتهم بالشتائم، إما خوفا أو حرجا، وإيمانا مني بقوة الكلمة المكتوبة على الحائط، فالشتيمة المباشرة – إن استطعت إليها سبيلا – تنتهي بانتهاء الموقف، الذي ربما يكون عراكا أنهزم فيه فى الغالب، أو تبادلا لإطلاق الشتائم، وكنت بليدا فى سرعة القذائف الشتائمية، فما أن أبدأ معركة السب والقذف حتى تبدو على وجهي المحمر ونظراتي الغاضبة أني أوشكت على الانهزام، لكن الشتائم الموثقة على الحائط تحميني من ضعفي فى المواجهة، وفى نفس الوقت أضمن أن يقرأها أغلب الأطفال وكذلك الكبار، فيصل الأمر ببعض الأطفال إلى حد معايرة المشتوم بهذه المكتوبات، وبذلك أكون قد شتمته وأصبته بالعار الذي سيلاحقه حتى تزول إبداعاتي من على الحائط.

وكأن الله لم يشأ أن تذهب جهودي فى سرقة الطباشير سدى، وأراد أن يمنحني فسحة من الوقت كي أمارس هواياتي التي عرضت نفسي من أجلها للخطر، فإذا بالإجازات تتلاحق بسبب الآثار الكارثية التي خلفها هذا الزلزال البغيض. ولم أدرك حقيقة ما حدث إلا بعد سنوات، فبينما كنت غارقا فى طفولتي كانت مصر تنتحب، ومازالت الآثار القاسية لزلزال لم أعرف منه سوى الهزة والطباشير باقية فى عشوائيات سكنتها أسر لم تجد عنها بديلا بعد انهيار كل شيء، هذا إن كانوا نجوا بالأساس من قبضة الطبيعة القاسية.
رفيق طفولة - محمد عجلان

رفيق طفولة - محمد عجلان


ربما كان أول ما رأت عيني الطفولية بعد وجه أمي وبسمة أبي، لم يكن مرقده بعيدا عن غرفة عيشنا، فما أن تخرج من الحجرة حتى يواجهك واقفا أو راقدا فى مرقده، كان ظهره - حين يرقد - مرتعي وساحة لهوي، كان الأرجوحة حيث لا طاقة لنا بأرجوحات، وكان جبلي أتسلقه بعدما حالت الطبيعة بيننا وبين هذه المتعة، كان ظهره مهادا آمنا حيث يبلغ التعب والإرهاق من الطفل مبلغه، ولا أذكر أنه خان طفولتي يوما وأفزعني حين نومي.

كثيرا ما رافقته حين تعلمت المشي من البيت إلى الحقل قائدا أو راكبا، لا أذكر أنه استصغرني يوما، أو استقل قوة ساعدي، منحني بكل ما لديه من قوة ما بخل علي به أقراني من الصغار، كان يرقبني بعين المحب المقدر لإنسانيتي ! كانت عيناه دوما تحمل معنى لا يُدْرك كنهه، نظرات الحكيم حين يتلفت فى سيره وكأنه طرح أسئلة كبرى على نفسه ويحاول الإجابة عنها، صبر الأمهات الحانيات حين لا يعصي لك أمرا ولا يئن بأي حمل رغم قدرته المطلقة على إعلان العصيان! 

علقت بنفسي صورة إنسانية عنه من واقع علاقتي المباشرة به ومن واقع حكي أبي عنه، فما كان حديثه عنه إلا كحديثه عن البشر فهو قوي بينما غيره ضعيف، هو يدرك ما يريده بينما غيره من الإبل لا تفهم مراد أصحابها، لا يمد فمه على مزروعات أراضي الجار ترفعا وزهدا ! يحسن الصيام بينما غيره يغالط. تصرفات لا تعهدها فى حيوان، بل لا تصادفها فى كثير من البشر! 

حين كبرت وفكرت فى حقيقة طبيعة هذا الكائن، مرت برأسي خيالات عن كونه قادما من عالم آخر .. ليس حيوانا كما نصنفه، فهو أكثر من مجرد حيوان، فما قاله أبي - على ما به من مبالغات - لم تكذبه تجربتي الطفولية معه، لكن يبدو أن البشر أبوا إلا تصنيفه حيوانا، أتعجب ألم يروا منه ما رأيت؟! 
الإفتاء السياديني - محمد عجلان

الإفتاء السياديني - محمد عجلان


الإفتاء السياديني، أو الإفتاء السياسي باسم الدين، هذا النوع من الفتاوى يشكك المواطن - خاصة فى ظل احترامه لمن يطلقون على أنفسهم رجال دين - يشككه فى الدين نفسه، خاصة أن تلك الفتاوى تصدر وفق أهواء ومصالح سياسية لكيانات ينتمي لها هؤلاء المتحدثون الرسميون باسم الله، يوما كان التصويت بـ "نعم" على التعديلات الدستورية عين الإيمان وما عداه كان كفرا صريحا، ثم التصويت بـ "نعم" أيضا فى الاستفتاء على دستور 2012 هو الطريق الشرعي نحو الجنة، وها نحن الآن نرى الفتاوى تهل علينا من كل صوب وحدب معأو ضد الدستور الجديد أيضا باسم الله.

لكن ما علاقة الله بأن يقول المواطن رأيه بقبول أو رفض شيء معين، خاصة أن الله خيّرالإنسان فى قضية أكثر أهمية وخطورة من مسائل السياسة، وهي قضية الإيمان والكفر،فمن شاء فليؤمن ومن شاء الله فليكفر، هل يُخيّر الله عباده فى الإيمان أو الكفر به، ثم بعد ذلك يجبرهم على ما هو دون ذلك من مسائل السياسة والحياة ؟

من هنا تأتي شرعية ومنطقية وضرورة فصل الدين عن السياسة، بإبعاد الفتاوى عن دائرة السياسة، أيا كان نوع هذه الفتاوى، سواء كان أصحابها أنقياء السريرة ويريدون بها الصالح العام، أو كانوا تجار فتاوى يريدون بها وجه السياسة والمصلحة. لأن الفتوى فى النهاية هي وجهة نظر شخص تحتمل الصواب والخطأ، وبالتالي لا يجب أن نعلق بها مصائر أوطان فى الدنيا، ولا مصائر بشر فى الآخرة.

والأدهى من كل ما سبق، أن معظم من يتصدرون مشهد الإفتاء السياسي باسم الدين معزولون نفسيا عن تطورات المجتمع وما طرأ عليه من تغيرات، هم أعداء الحداثة وساكنو الماضي بشكله وعاداته وطريقة تفكيره، بما يعني أن فتاوى هؤلاء، حتى على صعيد الدين، صارت محل شك كبير.

ارحمونا يرحمكم الله !
فى مدح الصمت - محمد عجلان

فى مدح الصمت - محمد عجلان

كثرت الأقوال الداعية إلى الصمت والمحفزة عليه على مدار تاريخنا الطويل، منها على سبيل المثال لا الحصر: (بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسع منها بالصمت والعاشر في عزلة الناس)، (الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع. وإن أكثرت منه قتل)، (الصمت أبلغ من الكلام)، (إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب)، إلى آخر هذه المقولات الداعية إلى الصمت والمطالبة بالركون إليه. 


لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل كان التحفيز على الصمت آلية من آليات السلطة على مدار التاريخ العربي؛ بهدف تهيئة المواطن كي يشب صامتا عما يرى ويدور من حوله، موهمةً إياه أن الصمت نوع الحكمة، حتى وإن كانت حكمة زائفة؟ 

هل كان الصمت هدفا سلطوياً ومهرباً جماهيريا فى الوقت نفسه؟ بمعنى هل كان الصمت نافعا لطرفي العملية السياسية، وهما الحاكم والمواطنون (الرعية) فى الآن نفسه، حيث أن الصمت يحقق راحة السلطة بتكميم أفواه المواطنين، لكن بآلية لا توحي بالاستبداد المباشر الذي ربما استفز البعض واستثار الحمية فيهم، لكن عن طريق أدلجة الصمت وجعله معيار الوعي والحكمة وحسن الأدب أيضا.

ومن ناحية ثانية، هل كان الصمت يساعد المواطنين فى خداع أنفسهم تحت حجة الصمت البليغ الذي هو أكثر فائدة من الكلام، فيصمتون عما يدور حولهم من مظالم، محاولين بذلك اكتساب شرعيتهم الحكيمة – وإن كانت حكمة زائفة – من سكوتهم، وكأنه يمارسون نوعاً من التعالي على الوضع القائم، وإن كانت حقيقة الأمر هي الخوف من بطش الحاكم ؟

أعتقد أن الأمر فى حاجة إلى إعادة نظر فى كثير من موروثاتنا، لأن السياسي تسلل عبر كل ميراثنا تقريبا تحت لافتات دينية وأخلاقية، حتى صار الأيديولوجي وكأنه دين فوق الدين، لذا وجب علينا إخضاع التراث العربي الإسلامي لعملية فرز، فليس كل قديم أصيلا، فالجاهلي سبق الإسلامي، وفرعون سبق موسى، فإعادة النظر ضرورة بقاء وليست مجرد نوع من الترف العقلي.
على هامش معجم الوأد - محمد عجلان

على هامش معجم الوأد - محمد عجلان

يبدو للوهلة الأولى لمن يقرأ عنوان كتاب " معجم الوأد ، النزعة الذكورية فى المعجم العربى " أن الكتاب هو أحد الكتب المدافعة عن قضية المرأة والداعية إلى تحريرها ، وإن كان هذا صحيحا بالفعل، إلا أن العمود الفقرى للكتاب ليس قضية ذكورية الخطاب الثقافى العربى، بقدر ما هى عملية حفر نقدى فى أسس الثقافة العربية من خلال بحث العلاقة بين الوحدتين الأساسيتين لبناء أى مجتمع الرجل / المرأة، فهذا الالتواء فى العلاقة بين الرجل والمرأة التى أصَّل لها الخطاب المعجمى العربي، هو مجرد مثال للالتواء فى صميم الثقافة العربية، أو بمعنى أصح هو أساس الالتواء العام فى مسار الثقافة العربية .

وصميم ذلك الخطاب الذى حاول "معجم الوأد" تعريته هو الخطاب البدائى البدوى القابع خلف مفردات اللغة، حيث أن اللغة العربية لم تتخلص من بداوتها بعد دخولها أطوار التحضر، بل احتفظت بتلك البداوة وجعلتها معيار الفصاحة، فظلت بذلك حاملة للمضامين الثقافية لمجتمع البداوة، فأصبحت مفردات اللغة غير محايدة، بل معبأة بمخزون ثقافى بدوى، تحول من كينونته الزمنية المتغيرة ، إلى كينونة مطلقة تمارس دورا معياريا، وعندما يصبح البدوى البدائى معيارا، فالمنجز الحضاري بصفة عامة، وما يتعلق منه بطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة بصفة خاصة، سوف يخضع لتلك المعيارية البدوية، وبذلك تكون النتيجة محسومة لصالح البدائى فى مقابل المتحضر.

وقد قام صاحب "معجم الوأد" بمحاولة استكشافية للبحث عن جذور السرطان البدوى المتغلغل فى جسد الثقافة العربية، من أجل أن يلفت الأنظار إلى حيث يجب أن تلتفت، لأن أي محاولات تشخيصية للداء لا ترى تلك العلة الثقافية، فإنها تكون كمن يبنى على رمال متحركة، فلن يجدي نفعا أن نطالب بتحرير المرأة من سطوة الرجل دون فضح الأسس الثقافية التى قام عليها الخطاب التمييزى بين الطرفين، وما يؤكد رؤية الكاتب وعمق ما سعى إلى كشفه هو أن ذلك التمييز البدوى بين الرجل والمرأة وصل إلى حالة من الرمزية جعلت المستَبَدَ به / المرأة تقبل الوضع، بل وتدافع عنه فى وجه من يريد تغييره أو تعديله، باعتباره الوضع الطبيعى، وهنا مكمن الخطورة، حيث تحولت الضحية إلى شريك فى عملية القتل التمييزى المستمرة، فنحن بصدد مريض يرفض كل محاولات العلاج، حيث اكتسب التمييز الذكورى شرعيته من الضحية، وأصبح التمييز جزءا من الضمير الجمعى لأفراد المجتمع رجالا ونساء.

وفى سياق التأصيل لذلك الخطاب الذكورى فقد تحولت الرؤية الدونية للمرأة إلى كيان ثقافى حاكم لكل من الرجل والمرأة فى آن واحد، فأصبحت المرأة فى الثقافة العربية لا تخرج عن سياق النموذج الثقافى الذكورى، ويبدو ذلك صارخا من خلال نظرة المجتمع برجاله ونسائه لإنجاب الذكر، وهذه الذكورية هى ميراث عربى بدوى قبل إسلامى ظلت عالقة بعقلية العربى وتم تحويلها من خلال رمزية اللغة - زورا وبهتانا – إلى جزء من الإسلامى، رغم أن الإسلامى منها براء، بل جاء الإسلامى – ضمن أهم ما جاء به - للقضاء على مخلفات تلك العقلية الجاهلية، ولكن يبدو .. ليس كل ما يبتغيه الإسلام يدركه !

وأصبحت الإشكالية الآن فى عدم التفريق بين الميراث العربى الجاهلى والميراث الإسلامى، بل حصل خلط بين الطرفين، تم بناء عليه اعتبار كل ما هو إسلامى عربى وكل ما هو عربى إسلامى، رغم أن الإسلام قد جاء للقضاء على بعض ذلك العربى البدوى، ولكن لم يستطع الإسلام حتى الآن أن يقضى على كل الميراث العربى الجاهلى، ويبدو أنه لن يستطيع ذلك دون الالتفات إلى حقيقة العلة التى أشار إليها كاتب "معجم الوأد" ومحاولة علاجها وفقا لما أشار إليه وما يمكن أن يضاف إلى مقترحاته. وبين حين وآخر تظهر الدلائل الفاضحة لذلك الميراث الذكورى الجاهلي، تحت دعاوى عديدة منها الحفاظ على المرأة واحترامها، دون احترام لها كفاعل، بل الاحترام الذكورى الذى يراها دائما قاصرة عن الفعل، بل مفعولا بها على كافة المستويات، حيث لم تخرج عن حيز الأداة الاستمتاعية التى يحاول مالكها أن يصونها لاستمرار الدور الذى حدده لها .

وتكمن أهمية وكذا خطورة "معجم الوأد" ليس فقط فبما قدمه من تشخيص لمكمن العلة فى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة فى ظل الخطاب العربى، ولكن الخطورة فيما لم يعلن عنه الكتاب صراحة، وإن لم يتركه فى حيز المسكوت عنه، حيث أنه أحال إليه من خلال ما قدمه فى تحليله للعلاقة بين طرفى المجتمع، وما أعنيه هو البعد السياسى لـ "معجم الوأد" حيث أن الحفر فى طبقات الثقافة العربية لفت الأنظار إلى أن الاستبداد الذى يحكم العلاقة بين الرجل والمرأة دون الارتكان إلى مبررات موضوعية لذلك التمييز، ليس بعيدا عن الاستبداد على المستوى السياسى، حيث أن الثقافة التى تتقبل دون كبير عناء ذلك التمييز الظالم بين طرفيها، لن تمانع فى تقبل أى نوع آخر من الاستبداد بين أى طرفين (الحاكم والمحكومين) وتلك الثقافة التى تقبلت ذلك التمييز الذكورى، بل حولته إلى كيان شرعى على المستوى المعرفى والاجتماعى معا، يمكنها أن تقوم بالتأصيل للخطاب الاستبدادى على المستوى السياسى، ولما لا ما دام المنبع واحدا !!

وإذا كان التمييز الذكورى المتأصل فى صميم الثقافة العربية قد أدى إلى علاقة غير طبيعية وشائهة بين الرجل والمرأة، فإن ذلك قد انسحب على العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكومين، حيث انتقلت القبلية بمخزونها المنتن الذى نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى صميم البنية السياسية العربية، بل تم ممارسة نفس الدور التمييزى باعتبار الحاكم كائنا فوق بشرى، وأن حكمه أيا كانت سوءاته خير من الفوضى، وتحويل العلاقة من حيزها السياسى إلى حيز أبوى، مما يخرجها عن سياق المساءلة السياسية إلى علاقة احترام وطاعة .

وبدت تلك العلاقة الشائهة من خلال التأصيل للاستبداد واعتباره أفضل من الفتنة، (سلطان غشوم خير من فتنة تدوم) فأصبح الخيار فى التراث السياسى العربى هو بين الاستبداد والفتنة، وليس بين الاستبداد والحرية، وتم ذلك من خلال الغطاء الدينى، وإن لم يكن الغطاء الدينى هو الوحيد فى أداء تلك المهمة، غير أن عناصر أخرى قد تكاتفت فى الوصول إلى تلك الغاية، وأبرزها ما أشار إليه الكاتب، ألا وهو اللغة المسكونة بالانحرافات التمييزية.

ولذا أصبحت العلاقة بين الحاكم والمحكوم تحمل نفس الملامح التى تحملها العلاقة بين الرجل والمرأة، فكأننا بالحاكم يحمل نوعا من الذكورة السياسية تؤهله لأن يكون قيما مطلق اليد فى التصرف فى مقدرات المحكومين، الذين يمكن اعتبارهم يمثلون الأنثوية بإيحاءاتها السلبية فى العقلية البدوية الكامنة فى الثقافة العربية، فلقد انتقلت معادلة رجل / امرأة – ذكر / أنثى من سياقها الجنسى إلى السياق السياسى، ولا صعوبة فى ذلك على اعتبار أن الجنسى والسياسى يصنفان ضمن إطار السياق الثقافى العام، فذلك يجعل نقل تلك المعادلة من حيز الجنسى إلى الحيز السياسى نوعا من التوافق الثقافى.

فى ذم طالب السلطة - محمد عجلان

فى ذم طالب السلطة - محمد عجلان

كثيرة هي الأحاديث التي وردت – وفقا لتأويلات الكثيرين – فى ذم طالب السلطة وعدم توليته، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمُرة في حديث أخرجه الإمامان البخاري ومسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعنت عليها. وقال الرسول لأبي ذر الغفاري بعدما سأله الإمارة: "يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها".. وفي حديث آخر يتحدث النبي عن الإمارة الصغرى: "ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل أو يوبقه الجور". 

لكن السؤال المطروح الآن وقبل كل شيء ليس نص الأحاديث، أو صحتها من عدمها، ولكن لمصلحة من تؤول تلك الأحاديث باعتبارها فى ذم طالب السلطة أو الساعي إليها؟ وباستقراء تاريخنا السياسي نجد أن الحكام لم يكونوا بمعزل عن الخطاب الديني بشكل خاص والثقافي بشكل عام، وأن الترويج لقراءة بعينها كانت يد السلطة دائما تدفعها من الخلف، وبالمقابل تضع العراقيل فى سبيل قراءات أخرى لا تناسبها. نجد من خلال التأمل فى "ذم طالب السلطة" والنظر إلى السلطة على أنها غُرم فى الدنيا وندم فى الآخرة، نجد أنها جزء من خطاب محافظ تروج له السلطة القائمة، أو على الأقل تمنحه مساحة تحرك لا تمنحها لغيره من الخطابات الموازية، على اعتبار أن الترويج لهذه القراءة يحقق مكسبا واضحا لأي سلطة قائمة، لأنها تغلق الطريق أمام راغبي التغيير، وتصويرهم للمجتمع على أنهم طُلاب سلطة، وبالتالي فهم معارضون لتوجيهات الدين الداعية لعدم طلب السلطة.

إلا أن هذا القراءة للنص النبوي هي قراءة منقوصة، خاصة أنه ورد فى الأحاديث ما يؤكد على أن طالب السلطة يُرفض طلبه، إذا كان غير مؤهل لتولي السلطة، وأول ما ورد فى رد الرسول على أبي ذر هو قوله "إنك ضعيف" والضعف هنا هو عدم الكفاية أو الكفاءة، رغم ما يتمتع به الصحابي الجليل من تقوى لا تخفى على أحد. ونجد أن الرسول استمر فى تأكيده قائلا: ".... إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". فأخذها بحقها هو ما نتحدث عنه بمفرداتنا الحديثة بكلمة"الكفاءة" أو "الأهلية"، فلا ضير من طلب السلطة إذا كانت لديك المؤهلات لذلك، خاصة أننا حديثا لدينا آليات للحكم على الكفاءة، وليست المسألة كما كانت عليه زمن الرسول، فقد أصبحت السلطة تُطلب من الشعب لا من حاكم أو نبي، فأصبحت الكلمة كلمة شعب يرتكن فى حكمه على آراء متخصصين فى صحة ما يقوله طالب السلطة من عدمه.

ومن هنا نرى أن القراءة الخاصة بذم طالب السلطة هي قراءة لا تخرج عن أحد احتمالين، الأول هو كونها قراءة زهاد أتقياء لا يرغبون فى الدنيا، وبالتالي يفكرون فى السلطة بنفس المنطق، لأن عينهم ترقب الآخرة ولا تشغلها الدنيا، وهذه القراءة إن حسنت نوايا أصحابها لكنها لا تصلح كي تكون معيارا لممارسي الحياة. أم الاحتمال الثاني، هو أن هذه القراءة التي تجتزئ النص النبوي وتخرجه من سياقه العام، هي قراءة تستهدف خدمة السلطة وتشويه صورة معارضي الحكم والساعين نحو التغيير سواء بالقول أو الفعل. فتعمل على مناهضتهم عبر هذه القراءة لتنهي معركتها مع خصومها قبل أن تبدأ. وبالقطع فإن السلطة لا تنتج خطابها عبر السياسي وحده، لكنها إما أن توظف رجال دين لإنتاج خطاب يناسبها، أو تقوم بتوظيف قراءات أهل التقوى من أجل الترويج لخطابها فى مقابل غيره من خطابات التغيير، أو ربما تجمع بين الطرحين معا، بإنتاجها الخاص للديني عبر رجالاتها، داعمةً تحركها فى الوقت نفسه بقراءة الأتقياء من ذوي الخطاب الزهدي.

لا تنفي هذا القراءة السلطوية أو الزهدوية وجود قراءات أخرى ترى النص النبوي فى تمامه، وتؤكد على ما طرحناه من أن المعيار هو الكفاءة،وأن طلب السلطة ليس عيبا فى ذاته، فقد طلبها نبي الله يوسف حين قال: "اجعلني على خزائن الأرض"، مؤكدا على أهليته لتولي هذه المهمة، فقال:" إني حفيظ عليم"، ولم يطعن ذلك فى نبي الله يوسف، ولم يرد فى سياق القرآن أن طلبه للسلطة مذمة أو عيب، مما يؤكد على أن الكفاءة هي المعيار، خاصة أن يوسف لم يطلب هذه السلطة من منطلق كونه نبي الله الذي أيده الله بنصره بعد طول سجن، لكنه طلب مؤكدا طلبه بالكفاءة. وهناك من أكد على هذه الرؤية، لكنه كما سبق وذكرنا أن السلطة تروج لقراءات داعمة لبقائها، بينما تهمش القراءات الأخرى إما بالطعن فى أصحابها، أو بتضييق الخناق عليهم كي لا تنتشر وتهدد سلطة الحكم.

وانطلاقا مما سبق، يجب أن نؤكد على أن إقحام الديني فى السياسي يمنح السلطة مساحة كبيرة للتلاعب بالقراءات المتعددة، خاصة فى ظل وجود وسائل الإعلام الحديثة، التي تسهل على السلطة مهمتها، فتنقل خطابها على أوسع نطاق وتقصى القراءات المناوئة، وبذلك تحكم قبضتها على عقول الجماهير، فتدفعهم إلى تبني وجهة نظرها فى الوقت الذي يظنون أنهم يختارون ما يرون أنه صحيح، فعملية الفصل بين الديني والسياسي سوف تغلق على السلطة بابا مهما فى تلاعبها بعقول الشعوب، وبالتالي أرى أنه من الصواب ألا نقحم الدين فى السياسة حتى لا نجد أنفسنا فى مواجهة مع سلطة تسيء استخدام هذا الخطاب أو ذاك ضد شعبها.