الاثنين، 14 أبريل 2014

غبائيات طفل - محمد عجلان

فى 1992 كنت طالبا بالصف الثاني الإعدادي، كانت الحصة الأولى فى مادة العلوم، حيث لم تكن المدرسة بعد مرور أكثر من شهر قد وفرت لنا مدرسا لتدريس هذه المادة، وبعد طول عناء وبحث منهم وسعادة وعدم انتظار منا بالأساس، جاءنا شخص قيل – والعهدة على ناظر المدرسة آنذاك- أنه مدرس المادة، لم تكن ملامحه تشي أن قدميه دلفتا مدرسة من قبل، قصير، نحيف، زائغ النظرات، متيبس الوجه كأنه خارج لتوه من مقبرة، يبحث عن ريقه وكأنه أكل ملحا قبل الدخول إلى الفصل، ملابسه تعكس ملامحه فى حالة من التوافق الفوضوي، يمشي كأنه سيسقط بين لحظة وأخرى، أحدثت نظراته الغريبة المريبة التي أخذ يوزعها بين الطلبة فور دخوله الفصل أثرها فى النفوس، فإذا بالبعض يتغامز، بينما آخرون أصابتهم الدهشة للوهلة الأولى، فى حين اندفع البعض الآخر فى ضحك هستيري غير قادرين على السيطرة على أنفسهم، فما كان منه إلا أن يمارس علينا طقسا دراسيا معتادا وهو الضرب، وما أن فرغ من ضرب الطلبة الضاحكين، إذا بالطبيعة تعلن غضبها علينا، وكأنها تدافع عن كائن أرسلته فى مهمة كونية فى مدرستنا ولم نحسن استقباله، فأخذت المدرسة تهتز هزة عنيفة لم نعهدها من قبل، خرج الجميع عن صوابه، وما أن لمح المدرس الخوف باديا على وجوهنا، فإذا به – بحكم كونه مدرس علوم - يقول: ألا تعرفون ما هذا؟ ودون أن ينتظر إجابة طبعا قال: إنه زلزال. فما كان من الجميع دون أن يدرك حقيقة الكلمة إلا أن يقفز من النافذة، خاصة أننا كنا فى الدور الأرضي. وكان المدرس بالطبع فى مقدمة القافزين.

وبينما الجميع يفرون هربا من النوافذ والأبواب نجاةً بأرواحهم، إذا بغبائي يحاصرني ويحضني شيطاني على أن أبقى بعض الوقت أجمع بعض قطع الطباشير الملقاة على أرضية حجرة الدراسة؛ كي أشوه بشخبطاتي الطفولية جدران القرية، ممارسا دوري الإبداعي على الجدران، أشتم هذا وأسب ذاك، بدءا من الزملاء وصولا لآبائهم وأمهاتهم إن اقتضت ظروف الشيطنة، خاصة أولئك الذين لا أستطيع مواجهتهم بالشتائم، إما خوفا أو حرجا، وإيمانا مني بقوة الكلمة المكتوبة على الحائط، فالشتيمة المباشرة – إن استطعت إليها سبيلا – تنتهي بانتهاء الموقف، الذي ربما يكون عراكا أنهزم فيه فى الغالب، أو تبادلا لإطلاق الشتائم، وكنت بليدا فى سرعة القذائف الشتائمية، فما أن أبدأ معركة السب والقذف حتى تبدو على وجهي المحمر ونظراتي الغاضبة أني أوشكت على الانهزام، لكن الشتائم الموثقة على الحائط تحميني من ضعفي فى المواجهة، وفى نفس الوقت أضمن أن يقرأها أغلب الأطفال وكذلك الكبار، فيصل الأمر ببعض الأطفال إلى حد معايرة المشتوم بهذه المكتوبات، وبذلك أكون قد شتمته وأصبته بالعار الذي سيلاحقه حتى تزول إبداعاتي من على الحائط.

وكأن الله لم يشأ أن تذهب جهودي فى سرقة الطباشير سدى، وأراد أن يمنحني فسحة من الوقت كي أمارس هواياتي التي عرضت نفسي من أجلها للخطر، فإذا بالإجازات تتلاحق بسبب الآثار الكارثية التي خلفها هذا الزلزال البغيض. ولم أدرك حقيقة ما حدث إلا بعد سنوات، فبينما كنت غارقا فى طفولتي كانت مصر تنتحب، ومازالت الآثار القاسية لزلزال لم أعرف منه سوى الهزة والطباشير باقية فى عشوائيات سكنتها أسر لم تجد عنها بديلا بعد انهيار كل شيء، هذا إن كانوا نجوا بالأساس من قبضة الطبيعة القاسية.

مقالات ذات صلة

غبائيات طفل - محمد عجلان
4/ 5
بواسطة

إشترك بالنشرة البريدية

لا تترد في الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني،للحصول على أخر اخبارنا