الاثنين، 14 أبريل 2014

الواحدة بعد منتصف الليل - محمد عجلان

الواحدة بعد منتصف الليل يرن جرس هاتفها كل ليلة، حديث العشق المسائى، كانا قد ضبطا توقيت هاتفيهما معا، فما أن تدق الواحدة حتى تضغط على زر فتح الاتصال، حتى لو لم تصلها رنة الهاتف، موقنة أنه موجود على الخط فعلا، كل مرة تداعب مسامعها كلماته المدغدغة للمشاعر، نفس الصوت كل ليلة، لا ملل إطلاقا، كأنها تسمعه للمرة الأولى، كأن صوته عذراء تتجدد بكارتها على الدوام.

كانت تستنشق صوته، تسمع عينيه، كانت تتعجب حين تفكر أن لصوته رائحة تفوح من الهاتف، لم تبح لأحد بفوضى الحواس التى تسببها لها كلماته، فما كان لأحد أن يرى أو يسمع ما تعايشه مع هذا الصوت، كان صوته حضورا تاما. لم تره سوى مرة واحدة فى طريق عودتها من المدرسة، ما أن وقعت عيناها عليه حتى توقفت الحواس عن العمل، كان تأثيره عليها كتيار كهربائى فوق مستوى تحمل المصباح، قالها كلمة واحدة: (ازيك).

لم تنبس ببنت شفة، لكن العين تكلمت والأنفاس المتسارعة كانت رسول قلبها إليه، دس فى جيبها قصاصة ورق ثم اختفى فجأة، تسارعت دقات قلبها، أحست أن قلبها سيتوقف، لم تجرؤ على فتح قصاصة الورق فى الطريق، استشعرت أن الطبيعة من حولها صارت عينا كبرى ترقب ما تفعله، الأشجار، العصافير، أسطح المنازل، نوافذها، عربات الكارو، كل العالم تحول بنظرها إلى أعين ترصد كل سكناتها وهمساتها، الجميع لديه شوق لمعرفة ما بداخل القصاصة، تلفتت يمنة ويسرة، ثم تحركت فى خطوات متعثرة قاصدة بيتها، أو بالأحرى غرفة نومها، لم تلتفت كعادتها لما يدور حولها فى الطريق، بل الغريب أنها وصلت البيت رغم أنها كانت مغيبة بوقعه عليها عن العالم من حولها. يبدو أنها الغريزة قد قامت بدورها حين غاب العقل مع صاحبنا، كانت أشبه بمن سرق أحلاما نساها القمر وهو فى طريق عودته وتخشى وشاية النجوم.

طاردتها أفكارها القديمة وهى شاخصة ببصرها من نافذة حجرتها على الشارع، قبل أن تراه ظنت قلبها أرضا بورا عافتها البذور، وها هو قلبها صار أسيره فى طرفة عين، استغربت كيف استسلم للعبودية الجديدة بهذى السرعة، هل الحرية لا قيمة لها حين يكون الأسْر بهذا الخيط الرقيق من كلمات المعشوق، هل نداءات الحرية هى دعاوى من ضلوا طريق القلب، هل حسابات القلب فوق مستوى الجبر والاختيار، هل تتحطم على صخرته ما يحار العقل فى اكتشاف كنهه؟ .. هل تنحل عقدة الأسئلة الكبرى على أبواب القلب حين يعزف على أوتاره هذا القادم من حيث لا تدرى؟

داعبتها عصفورة تحوم حول النافذة، ولأول مرة تستشعر أن الطيران ليس هبة الطيور فقط، ها هى تحلق أبعد مما تتخيل العصافير ذاتها. لم تكن أحاديثه تعجبها لسبب معين، مجرد أن يصدر الكلام عنه فيتحول إلى سحر يخرجها عن ثيابها البشرى لتحلق فى عالم ملائكى آخاذ، لم تكن تستمع لحديثه وأفكاره وما يطرحه دوما من كلمات جميلة حينا وأفكار عميقة عن القدر أحيانا أخرى، لم تشغل بالها يوما بما يقول، تكتفى دوما بأن يقول وحسبها منه هذا، حالة ذوبان صوفى مع صوت لم ترى صاحبه سوى مرة واحدة، لم تسأل نفسها يوما ما (وماذا بعد؟) .. ما تعيشه الآن هو القبل والبعد، لا تريد أن تخرج من نشوتها بأسئلة ربما تزعجها بخوف من مستقبل ربما لا يكون على ما يرام.

حين كانت تنتهى مكالمته وتسترجع رائحة صوته مرارا وتكرارا بينها وبين نفسها، كان يلفت نظرها دوما أنه قدرىٌ يحب، يعشق، يسرح بخياله إلى آفاق لم تطأها قدم قبله، لكنه مطوق بقيد اسمه القدر، ما كان لها أن تفهم من تسكنه كل هذه الطاقة من الحب والرغبة فى الحياة كيف يسلم نفسه هكذا لدوامة القدر التى تقتل على مذبحها بريق الغد المنتظر؟

أخبرها ذات مساء أنه حين رآها للمرة الأولى أحس أنها روحه التى حارت طويلا بعيدا عن جسده ثم اهتدت أخيرا إليه، عرفها قبل أن يسمع صوتها للمرة الأولى، عرف وقعه عليها قبل أن تراه، حتى مواعيد الواحدة بعد منتصف الليل سكنته وهو يضع القصاصة فى جيبها، حاول أن يطرد طيفها ما يزيد عن العام، كان يهدف التأكد أنها (هى) بعد فشل كل محاولات قتلها بخنجر عقله، كان اللقاء الأول فى طريق عودتها من المدرسة.

فاجأها حين أخبرها أنه منذ لقائهما اليتيم أنه يراها دائما، حكى لها ما حدث لها بعد أن تركها فى الطريق، كأنه كان يسير بجوارها، بل الأغرب أنه وصف ما دار بداخلها دون أن يُسقط شيئا، منذ اللحظة الأولى كأن بثا حيا خاصا بها يظهر على صفحة قلبه، سألته هل يحدث هذا مع الجميع .. هل كان دوما هكذا حتى قبل أن يلقاها؟ والمدهش فى الأمر أنه لم يكن قبل معرفته بها هكذا، ولا يحدث هذا إلا معها، حالة كشف صوفى انتابته بعد رياضة قلبية مارسها طيلة عام. إلا أن من جملة غرائبه التى أذهلتها، أخبرها أن انعكاس صورتها عل صفحة قلبه لم تأخذ نفس الوضع طوال الوقت، فى البداية كان يراها وجها لوجه، بعد ذلك أحس كأنه يرتفع قليلا عن الأرض، ثم استمر هذا الوضع حتى أصبح يراها من فوق !! .. كأنه فراشة تحوم حول رأسها، ثم صارت المسافة أبعد دون أن يخل ذلك بوضوح الرؤية، وها هو الآن يراها من مسافة يصعب قياسها، إلا أنه يراها بشكل أكثر ثباتا.

باغتها حين طلب منها أن تفتح عينيها ولو لمرة واحدة حين يكلمها، التفتت حولها مذهولة، ظنته يجالسها نفس الأريكة التى تتمدد عليها، لا يمكنه حتى لو كان بجوارها على الأريكة أن يرى عينيها المغمضتين، لابد أن يكون فى مواجهة وجهها، الذى كان محاصرا بين وسادتين إمعانا فى عزلتها، حينها أحست أنها تهاتف طيفا، سألت نفسها هل رأيْتُه حقا هذا اليوم؟ .. قلَبَ قواعد المنطق وأتاه منها الجغرافيا، إلا أنها رغم كل ما عرفته عن غرائب هذا الصوفى العاشق فى صومعتها، لم يكن يشغلها شئ عنه حتى ما يخبرها به.

دقت الواحدة، ضغطت على زر فتح الاتصال، لم يأتها الصوت، إلا أنها استمرت على الخط بنفس انفعالاتها، استمرت كأنه على الطرف الآخر، نفس الذوبان الذى استمر لأكثر من ثلاث سنوات. طال غيابه، وهى على نفس المنوال لا تغلق الهاتف إلا بعد انتهاء المدة التى كانت تحادثه فيها، لم تفتقده فهو حاضر دوما، كأنها اختزنته لسنوات الصمت، عامان لم يأت الصوت، ولم تغب رائحته.

مقالات ذات صلة

الواحدة بعد منتصف الليل - محمد عجلان
4/ 5
بواسطة

إشترك بالنشرة البريدية

لا تترد في الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني،للحصول على أخر اخبارنا