الاثنين، 14 أبريل 2014

أرانى فى وجه أمي - محمد عجلان

1-

فى ليلة من ليالى الشتاء التى يخافها الفقراء، ففيها يجتمع عليهم صوت المعدة المنفلت من عقاله دون أن يجدوا ما يدفعون به ضريبة بطشه فيتضورون جوعا، وسهام الصقيع التى تتسلل خلال ثيابهم البالية وأغطيتهم الرقيقة بفعل السنوات، جلسنا حول لمبة الجاز التى كانت مصدر النور فى ليالى الشتاء الطويلة المخاصمة للكهرباء. وعلى مسافة منها وقرب الباب قطع من الخشب المشتعل لتدفئة المكان، والذى كاد يقتلنا مرارا، لا بسبب اشتعاله فى أحد مدخراتنا البسيطة، لكن لحرقه هواء الغرفة التى تفنن أبى فى تحبيشها بالخرق القديمة حتى لا يداهمنا برد لا نقدر على رده، جلستُ فى ركن قصى من الحجرة منشغلا برواية أقلب صفحاتها فى غيبة عما يدور حولى، بينما كان أبى وإخوتى يتسامرون بأحاديث المساء المكررة، فكانت حكايات أبى للصغار هى دار السينما وقاعة المسرح الليلى التى يحلو لهم أن يتابعوها بكل شوق، رغم أن معظم حكاياته مكررة، يعيدها ويزيدها بنفس الانفعالات واللازمات، ولم يكن هذا غريبا حيث أن حياته البسيطة لم تتح له أن يدخر أكثر من هذا، لكن الغريب كان فى رد فعل الأطفال الصغار تجاه ما يقول، فالاستمتاع هو نفسه كل مرة، كأنها لم تخترق آذانهم وتسكن عقولهم مئات المرات بنفس الطريقة!

 الوحيدة الساهمة عن كل هؤلاء، الشاخصة نحوى بعينين مكدودتين من عناء أيام طوال لم تعرف فيها طعم الراحة ولم تنل نصيبا من المتعة، كانت أمى تحلم معى دون أن تعرف فيما أحلم، تشاركنى آلامى لا عن علم بحقيقة ما أعانيه، لكن يبدو أنها جِبلة الألم التى شكلتها بطابعها من ناحية، وغريزة الأمومة التى خلقت نوعا من التواصل الخفى بين قلبينا من ناحية أخرى. كانت انطباعات ما أقرأ تنعكس على صفحة وجهى فى ظل ضوء المصباح الهزيل، وكأن وجهها مرآة وجهى فإذا بابتسامى وتقطيبى واندهاشى على وجه أمى، تاهت عن أبى وصغاره وحكاياته مع شاب فى بداية العشريينات يرسم بخياله مستقبلا أفضل يُكذِّب الواقع إمكانات تحقيقه، لكنها كانت تصدق حتى كذبى، لم تكن قادرة أن تتحمل عدم تصديقى، كانت ترى فيَّ شيئا من الأنبياء والزعماء، لا عن موهبة أو حضور خارق فى محيطى الاجتماعى، لكن عن قلب أم داستها أقدام الأيام الفقيرة، فتشبثت بأول مولود لها أظهر بعض التقدم فى دراسته، لم تكن أحلامها أن تعيش حياة أفضل مما عاشته وتعيشه، لكنه أمل فى هذا الأفضل الذى كثيرا ما تحدث به هذا الابن الحالم.

سمعت منه أسماء فولتير وديكنز ونجيب محفوظ وطه حسين والعقاد ونيتشه وهيسه، كانت لا تميز أسماء البشر الغرباء من أسماء الأماكن التى لا تعرفها، فنيتشه وباريس هما شيئان ربما اخترقا أذنيها خلال حديث لا تفقهه مع ابنها، كانت تحب نيتشه لأنه يحبه، وتكره آباء الكنيسة فى العصور الوسطى لأنه يكرههم من ناحية ويشبهون إقطاعى قريتها الذين أذاقوها ألوان الذل والمهانة سنوات عديدة، كانت تخرج عن صمتها أحيانا حين يحدثها عن البؤساء، وتستغرب أن بلاد الخواجات بها أناس يعانون كما نعانى، هل هذا الخواجة الذى يتحكم فى مصير قريتنا، وغيره من الخواجات يعانون ويألمون كما تعانى وتألم؟ كانت تقبل هذه الحقيقة على مضض، وربما أرشدتنى إلى أن أعيد النظر، لعل هذا (الجدع) ،تقصد الكاتب، قد قصد مكانا آخر أقرب لقريتنا من بلاد (بره). لم أكن أحاول إقناعها بكل شئ لأن هذا كان فوق طاقتها، كنت أستمتع حين أرى مشاعرى منعكسة على صفحة وجهها الذى قتل أنوثته الفقر ومثّل به العوز، كان يأخذنى الغرور أحيانا بأن هذا ليس قلب الأم كما يقولون، لكن أعتبره قوة أمتلكها وأستطيع من خلالها أن أؤثر فيمن مثل أمى من البسطاء، لكن الواقع كان يكذّب هذا، فما كان تأثيرى على أحد يضاهى تأثيرى عليها، مما يؤكد أن هذا ليس قوة إرسال بقدر ما هى روعة فى الاستقبال.

كان يحلو لها أحيانا أن تخرج عن صمتها، لكنها لا تخرج عن دائرتى أيضا، كان حديثها دوما معلقا بسنوات طفولتى، كيف كنت أقضى نهارى داخل (الكانون) أحفر وكأنى أبحث عن شئ، كانت تترحم على أيام هدوئى حين كنت لا أعصى لها أمرا ولا أسبب لها قلقا؛ لأنى لم أبارح المكان التى ترصدنى فيه عن قرب، وكأنها كانت تتمنى أن أبقى على عهدى بالمكان والكانون إلى أجل غير مسمى. كانت تحزن كثيرا عندما يأتى المساء لأنى كنت أخافه، فإخوتى الكبار كانوا يتفنون فى تخويفى مخرجين مكنونهم الشيطانى ضدى، وكانت أبرز منغصات مسائى هو تخويفى بـ "البعبع"، وما كان هذا البعبع سوى انعكاس ظل أياديهم ووجوهم على حائط الغرفة فى ظلام الليل المنتهك بضوء المصباح الباهت، كان أمرا مرعبا بالنسبة لى، فما كانت أمى تملك سوى أن تنتهرهم وتحتضننى محاولة ،دون جدوى، إقناعى أنه لا شئ يدعو للخوف. كانت تذكر هذه الروايات باسمة، كأنها تخاطبنى بعينيها: ها أنت صرت رجلا لا تهاب البعبع الآن، صرت أمانى وعزوتى بعد أن كنت تبحث بين أحضانى عن الأمان. ما لم تكن تعلمه أمى حين تبعث برسالات قلبها عبر عينيها، أنى دوما أشعر فى حضنها بالأمان، وأنى لست هذا الهرقل الذى لا يأتيه الخوف من بين يديه ولا من خلفه، لكنى كنت أخشى أن أصدمها بحقيقة الأمر، تركتها تنسج بكل ما أوتيت من ضعف صورة البطل فى رأسها.

2- 

أخرجها من استغراقها فى دائرة ابنها مهرجان النوم الجماعى الذى بدأه الصغار، بعد فراغ الأب من صب حكاياته فى نفوسهم ربما حتى دون المرور بعقولهم، فها هو طفل قد استلقى على ظهره بعد جرعة استمتاعه بأحاديث الأب البارع فى الحكى، وأخرى قد ارتمت على وجهها فجأة حين داعبت حكايات الأب نفسها ودغدغت حرارة الغرفة رأسها معلنة انتصارها على برد شتائهم القاسى. فى مشهد يومى فى مثل هذا التوقيت تبدأ أمى فى عملية (رص) الصغار على الأرض بجوار بعضهم البعض، وبينما تكون مشغولة بالنيام لا يخلو الجو من طفل آخر مازال متمسكا بإعادة القصة من جديد، متجاهلا معاناة أبيه المنهك من عذاب يوم قاس، فتأخذه الأم باللين حينا وتحيل أوراقه إلى الأب لاستخدام الشدة أحيانا، فهى لا تريد الشدة ولا تطاوعها نفسها عليها. بعد أن تنتهى من عملية تجمعيهم بجوار بعضهم على أرض الحجرة، فى صورة إن دلت على الفقر المدقع حيث لا أسِرّة خاصة ولا عامة، إلا أنها تشى بأن للفقر أيضا روعته، فهذا المشهد يخلق دفئا ماديا ومعنويا، تجد أيادى متداخلة وأنفاسا متمازجة تخلق حالة من التوحد حول دفء واحد أو برد واحد، تقوم أمى بعد ذلك بإحضار أغطية تبدو فى شكلها العام أشبه بأزياء (البلياتشو) فقد تفننت فى تجميع أجزاء متفرقة مختلفة الألوان والخامات من بقايا الأثواب البالية أو من قصاصات قد زادت عن حاجة (الخياطة)، كل هذا من أجل صناعة (تلبيسة) تمنح غطاءنا بعضا من السُمك الذى فقده بفعل الزمن الذى جعله رقيقا أكثر مما ينبغى. كل هذا وأنا شارد عن الجميع وعين أمى تراقبنى بين حين وآخر وهى تقوم بمهمتها المقدسة كقطة حنونة مع صغارها، بينما يكون أبى قد تخلى عن أداء دور مهرج الأطفال ليصطدم بصخرة الواقع ومخاوفه الدفينة من المستقبل المجهول لهؤلاء الممددين بجانبه على الأرض فى شكل يملأ القلب حزنا – إن لم يكن مسئولا عنهم – ويملأه انكسارا وخوفا إن كان أباهم ومعقد آمالهم الصغيرة، فدائما ما تجول بخاطره فكرة فحواها إذا كان يلقى كل هذا العناء فى مجرد إطعامهم، فكيف به حين تداهمه حاجات المستقبل الكبيرة، فلن تنقذه قراريطه القليلة من فضيحة يفرضها سؤال اللئام، لأن اللئيم الذى يضن عليك بفك كربك، يضطرك مرغما إلى لئيم آخر. كان دعاؤه دوما (سترك يا رب). وبينما هو فى حزنه العميق بواقع ومستقبل هذه الطيور الصغيرة التى كفت عن الشقشقة منذ قليل مسلمين جفونهم للنوم، فإذا بيد خشنة تيبست أطرافها من عناء أيام قاسية تربت على كتفه، ناظرة بحنو أم ونظرة طفل ودودة (ربك كبير)، فتنزل كلماتها دوما على نفسه كماء بارد على فم عطشان أحرقه قيظ شديد، يبادلها نظرات أقرب إلى الاستسلام منها إلى الرضا، يجول بخاطره ضيق أفقها وعدم قدرتها على قراءة الوضع كما يراه، إلا أنها ربما كانت أعمق مما يتخيل بكثير، فقد كان قلبها عامرا بإيمان صوفى يعجز عقله عن سبر أغواره، فما من ضائقة تواجهنا – وما أكثرها – حتى أرى فيها (موسى) مؤنث يؤمن حين تنقطع أسباب النجاة أن له ربا لن يخذله، يبدو أنه نوع من الإيمان شكّلته رياضات المعاناة الراضية بالقسمة والنصيب، فمن يرضى بما نحن فيه، فثق تماما أنه لن تقدر يد الأيام على العبث بيقينه وإيمانه، وهى كانت كذلك دوما. نظرتها للأمور تستحضر فى ذهنى تصورا غريبا، وهو أن الحقيقة ولدت بسيطة وتسير فى شكل دائرى! وستعود بعد رحلتها الطويلة بسيطة ثانية، وما كل هذه التعقيدات التى يصنعها تعلق البشر بالحقيقة سوى جهد بشرى ضائع؛ لأنه يبحث عن الحقيقة بآليات ليست من جنسها، يبدو أن أمى قُذفت بنور هداها بينما نحن نتخبط فى متاهات العقل!

قررتُ الخروج من الغرفة خوفا من إزعاج الصغار الذين يبدو أن الأحلام قد عاجلتهم وبدأت تداعبهم مبكرا، فهذا يبتسم والآخر يشتم زميله الذى أخذ منه حصانه المصنوع من الطين نهارا، أحلام متجاورة تحت غطاء لا يشجع على الحلم حتى ولو بحصان من طين، لكنها رحمة الله وعدالة الأحلام!! وبينما بعضهم غرق فى عالم الأحلام تجد أحدهم قد تكوّم جاذبا ركبتيه لتغطى وجهه فى وضع جنينى يعيده سيرته الرحمية الأولى، لكن رقدته هذه تزعج الآخرين، فهى تُضيّق عليهم من ناحية، وتمنحهم كرمه الحاتمى فى توزيع رفساته ولكماته من ناحية أخرى، مما ينذر ببداية حرب أهلية، فما أن يبدأ هذا الأخ فى طقسه الليلى حتى يستيقظ البعض ويدخلون معه فى شجار كأنه قد رفسهم عن عمد، ومع غياب المنطق عن أذهان الصغار، لا يجد الرافس الأعظم حجة جاهزة للرد، فتشتعل نار كرامته ويرد عن نفسه هجوم القوات المعادية التى داهمته من القبائل المجاورة له فى الفراش، ويا لروعة الطفولة حين ترى أحدهم وهو فى قمة غضبه وصراعه يرتمى بشكل فجائى على الأرض مستغرقا فى النوم من جديد، لكن هذا يشعل غيظ خصمه فيهزه محاولا إيقاظه لاستكمال المعركة، وإن يأس منه يدفعه فى صدره دفعة إخوة خفيفة، ثم يخلد للنوم من جديد، لكن إذا حمى وطيس المعركة ولم يداهم سلطان النوم عين أحدهم، فلابد من تدخل قوى أخرى محايدة لإنهاء المعركة، وربما تكون حمامة السلام التى ظهرت فجأة لوضع حد للصراع الدائر فى الفراش طفلا آخر لم ينل حظه من الرفس واللكم فيحاول حل المشكلة لا عن فضيلة حلّت به، لكن محاولة منه فى نوم هادئ، أما إذا خرجت الأزمة عن إمكانات القوى الطفولية فى الحل، فلابد من اللجوء لقوى كبرى، ففى هذا الوقت يخرج أبى ببطء شديد من حالة استغراقه على تدافع الصغار وتضاربهم، والذى كان رغم تبسطه معهم فى الحكى والمداعبة حاضر الهيبة دوما، وكانت كلمة واحدة منه كفيلة بإنهاء صراع الصغار الموزعين بين النوم واليقظة والأحلام، فيطلقها فى ثقة مخترقة أسماعهم .. "اتخمدوا" .. فلا تسمع بعدها صوتا لأحد، ويرتمى الجميع معلنين الاستسلام، وإن كان بعضهم يحاول أحيانا إكمال معركته فى صمت خوفا من العقاب، والتى لا ينتبه الأب إلى استمرارها كحرب باردة تحت الغطاء، إلا حين يجيئه صوت بكاء أحدهم بشكل مفاجئ بسبب ضربة فى عينه أو عضة فى قدمه، فيعلو صوت الأب منذرا .. متوعدا، فتنتهى الحرب الساخنة والباردة معا ويستسلمون من جديد للنوم والأحلام.

3- 

هممت بالخروج من الغرفة المختنقة بأنفاس الصغار والدخان الساكن فى أرجائها بفعل النيران التى أشعلها أبى فيها، لكن لم يكن الأمر بالسهولة التى يتخيلها البعض، فقد انفرط عقد الصغار وتوزعوا فى أرضية الغرفة فى حرية تامة ضاربين بقيود الغطاء عرض الحائط، وتبدأ مرحلة الفوضى حين يضيق أحدهم بالغطاء فيمنحه رفسة من قدمه، وتكون هذه بداية الانتشار على أرضية الحجرة، فتجد أحدهم وقد صارت قدمه على أعتاب فم الآخر، ورأس أحدهم قد احتضنت أحذية بالية قرب الباب، فى الوقت الذى استقر فيه طفل فى مكانه دون حراك يذكر، غير عابئ بحملة إعادة الانتشار التى تحدث من حوله. فكنت أتخطى رقابا وأتفادى أرجلا فى ظل ظلام الحجرة، خائفا أن أدوس أحدهم وأنا فى طريق الخروج، وما أن أنجح فى خطة العبور الليلية – وكثيرا ما أفشل – حتى تفاجئنى مشكلة أخرى عند الباب، فأبى قد تفنن فى تحبيش الغرفة خوفا على الصغار واحتفاظا بدفء ناره، وإن فشل فى تفريغها من الدخان الكاتم للأنفاس، وها هو الآن قد استلقى فى أحد زوايا الحجرة مستسلما للنوم فارا من عذابات التفكير، ولا يوجد أحد كى يصلح ما سأفسده إذا خرجت ونزعت الخرق التى وضعت أسفل الباب، فلا يمكننى إذا خرجت أن أعيدها كما كانت، لكنى دوما كنت أغامر بنزعها وأفتح الباب، وبعد خروجى أجلس محاولا جذبها من الخارج لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قدر الإمكان. وكان الخارج من باب الغرفة يواجه مباشرة بالمكان الذى يرقد فيه مصدر رزقنا ورفيق أيامنا، يرقد (جمل) يجتر آلام نهاره مع أبى بين الحقول، واضعا عنقه الطويل على الأرض، متجاهلا برد الشتاء وتوحل المكان الذى يرقد فيه، تراه بين النوم واليقظة دوما فى مثل هذا الوقت، لكن ما أن يسمع أقدام قادم من بعيد أو قريب حتى ينفض عن عينيه سحابات النوم، موجها عينيه نحو القادم فى الظلام مع إبقاء عنقه على وضعه الملامس للأرض. لم يكن هذا (الجمل) مجرد حيوان تربطنا به أواصر العشرة وفيض الإنسانية الذى ينزل على الحيوان فنحسن معاملته، لكنها حياتنا المرتهنة بوجوده، فهو مصدر الرزق الأول إن لم يكن الوحيد حين تضن علينا قراريط أبى القليلة، وليست علاقتنا به بدعا من العلاقات فى قريتنا فالعلاقة بين الإنسان والحيوان فى قريتى تشذ عن القواعد العامة لعلاقات الإنسان والحيوان فى البيئات الأخرى، فلم تكن نظرتنا إليها تقل عن نظرة الآباء والأمهات لأحد أفراد الأسرة، إن لم تزد! فما أن يصيب هذا الحيوان أو ذاك مكروه ما، حتى تجد القرية عن بكرة أبيها تواسى صاحبه وتعوده فى جو أقل ما يوصف بها هو الحزين، حيث أنه حزن مشوب بأمارات الخوف القلق من هذا المستقبل الذى لا نعرف ما يحمل فى جعبته لهذه الأسرة التى تداهمها أصابع قدره دون سابق إنذار، والغريب أن هذا الإحساس لا ينتاب أحدا حين يمرض أحد صغاره، بل لا يرتقى الصغير إليه سوى بالموت وحده، ولم يكن هذا نوعا من التقديس للحيوان، بقدر ما هو دلالة على شدة الفقر الذى نحيا فى ظله، مما يجعل وجود هذه الحيوانات مركزيا فى حياتهم، وتجعل مستقبل أسرهم معلقا بأرجل هذا الحيوانات وضروعها، حيث لا بديل لديهم لحشو أفواه صغارهم ومقاومة شيطان الجوع غيرها، فكان الجمل وسيلة نقل السلع والمزروعات الوحيدة، بما يعنيه هذا من أجر يتقاضاه أبى فى المقابل، والبقرة مصدر اللبن الذى يعتبر طعام الصباح، وتأتى مشتقاته من جبن وقشدة لتسد وجبة الغداء، وتصنع أمى منه الزبد كى تبيعه لشراء ما نحتاجه من ضرورات خارج نطاق الطعام، إن كان ثمة شراء أصلا. فى ظل هذا الوضع بدأت علاقتى بالجمل، والذى أعتبره فى منزلة بين منزلتى الإنسان والحيوان، لا عن إحساس بدوره ولكن عن عشرة وتوافق عمره سنوات، أذكر ذات يوم تنازعتنا مشكلة الولاء بين أبى وبين الجمل، حين خرج الجمل رغم هدوئه عن طوره ومنح أبى عضة فى إصبعين من يده كادت أن تُعجزه لولا ستر الله، فأمطره أبى بوابل من العصى تخفيفا عن غيظه وألمه، فقد كان يتعامل مع الحيوانات وكأنه يتعامل مع بشر، فيغضب منهم ويغيظه بطئهم ويثنى عليهم حين يؤدون المطلوب منهم كما ينبغى، وبينما كان أبى فى حمى ألمه وغضبه، كان الجمل فى حالة سكون تام كأنه يعرف حجم الجرم الذى اقترفه ويعتبر تحمل الضرب فى صمت نوعا من التكفير، ساعتها كنا حائرين بين أبى والجمل، وإلى أيهما يجب أن نولى وجهة ولائنا ....

يتبع .....

مقالات ذات صلة

أرانى فى وجه أمي - محمد عجلان
4/ 5
بواسطة

إشترك بالنشرة البريدية

لا تترد في الإشتراك عن طريق البريد الإلكتروني،للحصول على أخر اخبارنا